فى المرة الأولى التى شرفت فيها بحضور ملتقى الشربيني الثقافى، الذى أسسه الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ/محمود الشربيني، تحت إسم(شمعة تقاوم العتمة)، لم أستمتع فقط بالمناقشات الثرية والفقرات الفنية الممتعة، بل سعدت بهدية قيمة إختص بها الصحفي الكبير أستاذ/سعيد الخولي كل حضور الملتقى، كانت الهدية هى نسخة من الطبعة الأولى لكتابه(أوراق العمر الأخضر:نعكشة فى الذاكرة)..والذى صدر عام 2019..وحرص أستاذ/سعيد على كتابة إهداء على كتابه القيم لكل الحضور..سعدت بهذا الكتاب منذ الوهلة الأولى، فعنوانه ينبئ بما فى طياته، وخاصة لشغفي بأدب السيرة، كما أسرنى بكلماته عن أبيه فى الإهداء، والذي إقترنت فيه مشاعره لأبيه بقريته(نكلا العنب)، فكان الإهداء(إلى حبى الأول الذى لم ينقطع..وإلى روح لم تفرح قدر ما أرادت وقدر ما ضحكت..نكلا العنب وروح أبى)..فتأكدت أننى سأقضي ساعات ممتعة، وأنا أغوص فى حياة هذا الكاتب الذى تنطبع بشاشته وطيبته بين كلماته..هذا الكتاب هو الأول للأستاذ سعيد، فكما يقول عن نفسه على الغلاف فى تقديمه للكتاب:"بالطبع هو كتاب متأخر فى صدوره بالنسبة لعمر قضيته ممسكا بالقلم، كان قلمي لغيري طوال تلك السنين بحكم طبيعة عملي مصححا ومدققا لغويا ومراجعا تحريريا لعشرات من الإصدارات الصحفية التى عملت بها أو شاركت فى إصدارها وإدارة تحريرها، إضافة لعملي الأساسي بجميع إصدارات(أخبار اليوم) الصحفية العريقة قبل لقائي الأول طالبا هاويا للصحافة بأميرها الراحل أ/مصطفى أمين(رحمه الله) سنة 1982"..يتناول الكتاب حياته منذ اللحظات الأولى التى وعتها ذاكرته، وحتى إحتفال جيرانه بنتيجته فى الثانوية العامة، والتى جاءت مخيبة لآمال عائلته، ولكنها قادته لدار العلوم، التى كانت بداية بقية مشواره فى معترك الحياة..وقد أطلق إسم(أوراق العمر الأخضر) على تلك الفترة التى قضاها فى قريته(نكلا العنب) وحسب وصفه:"حيث تفتحت حواسي على الدنيا وتلقيت دروسي الأولى فى الدنيا، فكانت بمنزلة قواعد حياتي اللاحقة اورثتنى عشق الريف وأهله، وعلمتني كيف أتعامل مع العالم بمزيج من التعقل والصبر والقناعة وحب الجمال كما خلقه الله"..إنتقل بنا الكاتب عبر المكان والزمان، فسافر بنا إلى مناطق لم نراها وأزمنة لم نعايشها، وألقى بحكاياته وطرائفه حب الريف فى قلوبنا، وجعلنا نرى مصر التى لا يعرفها كثير منا، بإسلوب سلس وبديع ، وبراعة وخبرة فى الصياغة أثقلتها أعوام العمر..فيجعل قارئه ينفض متاعب الحياة التى يعيشها الآن بصخبها وإيقاعها اللاهث، لينتقل معه إلى عالمه وأحلامه الطفولية البريئة وزمنه الجميل، الذى يرينا القيم النبيلة التى كانت تحكم التعاملات بين الناس..ومن أكثر ما لفت إنتباهى في الكتاب كيف كان التعليم فى قرى مصر، وكيف كانت المدرسة حياة، لا تكتف بتلقين العلم، بل تربي وتنثر بذور الوعى، وتنمى الحس النقدى دون حجر للرأى أو إرهاب للفكر..فمثلا ما حكاه عن استاذ اللغة الانجليزية في المرحلة الاعدادية، والذى حرص على تأسيس تلامذته بمتانة ومكنهم من عشق ماداته، وتحفيزهم(معنويا بالقاب تثير حميتهم كالنمر وشبل الاسد والثعلب والذئب، وماديا بإهدائهم كتاب خارجي على ان يتحمل الطالب نصف قيمته)..كما حكى عن إختياره قائدا للشرطة المدرسية بحكم تفوقه، وكذلك اختياره رائدا للفصل وامينا لاتحاد طلاب المدرسة، وكيف علمه أستاذه ممارسة دوره كأمين للإتحاد، بالدفاع عن الحق والبحث عن صالح زملائه دون أن يخشى مواجهة ناظر المدرسة أو أي مدرس طالما في حدود الادب..كذلك حكى عن الصفعة التي تلقاها من مدرس الكيمياء بعد توقيعه على شكوى ضده نيابة عن زملائه، وما تبعها من محاولة من المدرس لتطييب خاطره أمام زملائه، ثم زيارته له في منزله مساءا ليعتذر له امام عمه وجده..فتعجبت من ثقافة الإعتذار التى كانت سائدة ذلك الوقت، والتي بكل أسف صارت فى الغالب غائبة في يومنا هذا، وحل محلها كبر وعنت وغرور!..فخالص الشكر للكاتب والصحفي الكبير أستاذ/سعيد الخولي الذي رصد لنا عالمه بدقائقه، لا تمنيا لرجوعه (كما قال) بل نقلا وتوثيقا قبل أن تدرس معالمه، وقد كادت. وأنتظر بشغف قراءة الجزء الثاني من نعكشته فى الذاكرة، والذي سعدت بخبر صدوره منذ أيام قليلة، تحت عنوان(حكايات المتعة والعذاب:نعكشة فى الذاكرة 2)وأدعو كل محبي الأدب للإستمتاع بهذا السرد الراقي، الذى يخاطب القلب والعقل، ويقدم صورة حية ونضرة لزمن لم نعشه، ولعله كما قال المؤلف يعيد إلى الحاضر بنعكشاته فى جدار الذاكرة، شيئا من جمال نبحث عنه فلا نجده!
آراء حرة
سعيد الخولي.. وأوراق عمره الأخضر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق