السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ماذا يعني الوطن؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ذلك الوميض الذي يأتي من أعماقك دافئًا قويًا.. يشعرك بفصيلة دمك وملمس بشرتك ولون عينيك. يخبرك أنك تنمي بالجسد والروح لذلك التراب. يتلو عليك شهادة ميلادك.. اسم جدك.. عنوان بيتك الذي ولدت فيه. ينساك هناك تحت مظلة الصيف قبل أن ترحل السحابات عن جلدك المسترخي تراقب حركة الحياة البطيئة في الذكرى. تتحسس خلايا وجهك لا إراديًا.. وقد تتأمل وجهك في أقرب مرآة. قد تتذكر حينها كلمات لجدك : "كلنا سافرنا وأحببنا أن نعود.. لم نعد لأنهم أعادونا" كما أخبروني أن جدي الرابع كان يقول ذلك كلما أخبرهم عن عودته للوطن.
تلك الضحكة الأولى التي تذكرها.. أخبروك أنك ضحكت أول مرة حين كنت في شهرك الثالث.. لكن تلك الضحكة لا تعني لك شيئًا ما دمت لا تذكرها.. فضحكتك الأولى هي الذكرى الأولى للضحك. ربما حين قبلتك أمك قبل النوم ذات ليلة فضحكت حبًا.. ذلك الطريق الطويل إلى المدرسة.. شجرة الجرازينا المنتشرة في كل مكان بأزهارها البرتقالية الشقية. تهطل الأزهارفي الشهر الثاني من الفصل الدراسي الأول.. إنه الخريف. لون سترتك الأولى في المدرسة يشبه الجرازينا رغم أنه كان سكري اللون باستيلي الهوى. لا تكبر الجرازينا أبدًا وكذا أنت حين تسير في ذات الشارع المؤدي لمدارسك الثلاث.. الابتدائية والإعدادية والثانوية.. الثانوية.. حبك الأول الصامت واقعيًا.. المفعم بالأحاديث الافتراضية..
أول "أنا".. أول رفض.. أول قبول.. التخرج.. العمل.. أول حفلة زفاف لصديق.. الجميع هناك.. لم يغب أحدًا.. لذا لا يغيبون للأبدعنك.. أصدقاء يرقصون. يحبون. يتعثرون بأسلاك على الأرض. يسقطون. يجرح بعضهم. لكن الجميع يضحكون. الجميع سعداء. تبتسم حين تتذكرهم.. أنت لازلت تنظر في مرآة وجدتها. تتحسس جرحًا في جبهتك ترك أثرًا لذلك الحفل.
أول تذكرة سفر. أول سكتة قلبية. لا أحد يرحل بسهولة. قد نتشاجر من مدينتنا لكننا لا نكرهها أبدًا. يظل فراقها غصة في القلب نورثها حتى لأبنائنا الذين قد لا يرونها يومًا. السفر الأول. أرق أول ليلة. البعض يسميه فرق التوقيت البيولوجي. والبعض يسميه "غيرت مكان نومك". الأتصالات الكثيرة في الأيام الأولى.. ثم الرضوخ للغربة. أول تمرد على الغربة. العودة الأولى.. هذا هو الوطن بكل تفاصيله شوق وحب وعتب وعنف في الإقبال وجمال وبهاء.. تخيل أنك تلقى من لم تفارقه. وتعاتبه على أنك من تركه. لأنك عدت إليه. وتخيل لو كان هذا الحبيب وطنك. وتخيل أن وطن بلد جميلة أصحب في أبهى صورها الآن.. كيف يكون الوطن حينها؟