تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من الفوران والتغيير، وهو التخلص وإذابة إرث الإسلام السياسي وكل ما أوجده هذا التيار الفكري من شظايا وانفجارات داخل العقل الاجتماعي للشخصية في المنطقة، سواء على مستوى الفرد أو الدول، واليوم هناك تحولات تشهدها منطقة الشرق الأوسط تجعل من التغيير مختلف من دولة إلى أخرى ومن منظومة اجتماعية إلى منظومة أخرى.
فالمجتمعات الحضارية، ذات الإرث الكبير من الثقافات والبناء الاجتماعي المتماسك، هي حضارات بطيئة التغيير، يمر فيها التغيير على فترات زمنية طويلة وقد يأخذ سنوات، لكن في النهاية التغيير يصل إليها كجزء من التطور الحضاري فيها، بما يجعل عملية التغيير مكتسبة ومنصهرة داخل شخصية المجتمع سواء على مستوى الفرد أو مستوى الدولة.
أما المجتمعات صاحبة البيئة "المتنقلة" وغياب الاستقرار وشكل الشخصية والدولة لقرون والتي يطلق عليها الدول الهشة أو المستحدثة، فإنها أكثر سرعة في قبول التغيير أيا كان هذا التغيير سواء بشكل إيجابي أو سلبي ولكن يعيب على هذه المجتمعات الارتداد السريع أيضا عن التغيير.
لذلك يمكن القول المجتمعات الهشة إنها سرعية التقبل لأفكار جديدة وسريعة التخلي عنها أيضا، نظراُ لعدم وجود ثقل في بناء الشخصية في هذه الأماكن وأيضا لغياب العمق الحضاري التاريخي داخل المجتمع سواء على مستوى الفرد أو مستوى الدولة بذاتها، وهو عمق يجعل من المجتمعات الحضارية ميزان حساس لها في عملية التغيير وتدرك خطواتها جيداً في هذه العملية المعقدة التي تشبه طفل ممسك بقنبلة على وشك الانفجار.
و في ظل سعى المنطقة العربية لتخلص من تيار وأفكار الإسلام السياسي، فإن الدول ذات العمق الحضاري والإرث الاجتماعي والمورثات المختلفة التي اكتسب أبنائها شخصية الدولة، وقدرة على هضم التحولات التاريخية، يجعل من عملية التغيير والتخلص من الإسلام السياسي يشوبها شيء من البطيء يورث المتابعين والمراقبين عملية الشك في عملية التغيير برمتها ولكن هي تحولات بطيئة ستؤدي إلى النتائج المرجوة والمأمولة.
وحول المجتمعات الحضارية والهشة، يكتب الفيلسوف الكبير ابن خلدون في نظرية العمران ونشوء المدن، تفسيرا مقبولا لنشوء الحضارات، وسوف نجد أن هناك تفرقة بين حضارة النهر وحضارة الصحراء ولعل هذا يفسر إلى حد كبير الفوارق بين مجتمعات البادية ومجتمعات الحضر.
كذلك ينطوي البناء الاجتماعي الكلي لأي مجتمع على عدد من الأبنية الفرعية، فبناء المجتمع المصري مثلا يحتوي على عدة نظم أو بناءات فرعية مثل النظام السياسي والعائلي والديني، ولكل نظام من هذه النظم وظيفة أو دور معين يسهم في الحفاظ على البناء الاجتماعي الكلي للمجتمع.
ولعل دولة أفغانستان تعد حالة دارسة مستفيضة حول مراحل التغيير، من الدولة "البركزاية" هي سلالة أفغانية من الأمراء ثم الملوك حكمت في أفغانستان ما بين 1826-1973 م، ومع تأسيس الاتحاد السوفيتي كانت أفغانستان متأثرة بالثورة البلشفية وأداة لتنامي الفكر الشيوعي والتحرري داخل قطاع لا بأس به قادته ثورة 1973، وأدى الى إعلان الجمهورية بقيادة محمد داود، وهو الفترة التي سيطر فيها التيار الشيوعي على السلطة.
مع هذا التيار كان هناك تيارات أخرى أبرزها تيار الإسلام السياسي وعلى رأسهم" الإخوان المسلمين" بقيادة غلبدين حكمتيار ، وبرهان الدين رباني بن محمد يوسف، والذين حاول تنفيذ انقلاب ضد حكم "داود" في 1975، وظل الصراع قائما بين الشيوعيين والإسلاميين، وهي الفترة التي شهدت تسريع حضور تيار الإسلامي السياسي في الدول العربية والإسلامية، وأصبح التغيير أشد تطرفاً بوصول حركة طالبان للحكم والسيطرة على العاصمة كابل في 1997، ثم سقوطها على يد القوات الأمريكية في 2001.
والآن، الدولة منقسمة بين حكومة كابل برئاسة أشرف غني وحركة طالبان، ومازال التغيير السريع لا يراوح مكانه ومهدد لبنية الشخصية والدولة الأفغانية.
وهذه الثورة تختلف تماماً عن تجربة مصر مع الإسلاميين بظهور جماعة الإخوان في 1928 بقيادة حسن البنا، ثم محاولات الاختراق الناعم للمجتمع المصري والدولة في عهد الملكية، بين التحالف مع السلطة والتلاعب بالشارع، وفي ظل وجود شخصية مصرية لديها الثقل الحضاري، رغم الدعم الكبير لها إلا أن هذه الشخصية، صامدة وقوية أمام موجات الإسلام السياسي في الخمسينات والستينيات من القرن العشرين ثم السبعينات والتي معها بدأ تيار الإسلام السياسي يلفت الأنظار ويُستخدم في صراعات الدول الكبرى، حتى اغتيال السادات وثم مرحلة الثمانينيات وبداية التسعينات والتي غلب عليها العنف وتكفير المجتمع.
فقد كانت التغييرات السياسية وسقوط الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم جزء من دعم الاسلام السياسي، كذلك شكل الوضع الاقتصادي المصري بعد 1967، عوامل مهمة من محاولة الإسلام السياسي خطف الشخصية المصرية، والتي ظلت كجزء طفيلي ينمو حتى أوجه في السلطة في 2012، ثم تخلص المصريين من الإخوان في 30 يونيو 2013.
فيما يمكن القول إن عملية التغيير في دول ومناطق لا تملك العمق الحضاري والإرث الاجتماعي المتوارث كبناء تم بنائه تدريجياً، هي مجتمعات رغم سرعة التغيير إلا أنها قد تواجه الارتداد السريع أو الجنوح إلى أكثر التغييرات قلقاً، وهو ما يجعل من عملية تماسك وبناء الشخصية والدولة في محل عدم قدرة على الاستمرار كدولة أو كمنظومة اجتماعية حضارية.