قال أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، إن رسالة الإعلام العربي يتعين أن تُعزز لدى الشعوب قيم الاندماج الوطني والعيش المشترك، للرد على إعلام التحريض وإعلام الفتنة والانقسام، مؤكدا أن بوصلة الإعلام العربي لا بد أن تُشير باستمرار نحو تعزيز الدولة الوطنية، الدولة المستقلة صاحبة السيادة، دولة كل مواطنيها بلا تفرقة أو تمييز، دولة القانون والحقوق المتساوية للجميع.
وأضاف أبو الغيط فـــي كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للدورة (51) لمجلس وزراء الإعلام العرب برئاسة حمزة بَلُول الأمير بَلُول وزير الثقافة والإعلام بجمهورية السودان، أن هذا المجلس يُعقَدُ بعد غيابٍ دامَ قُرابةَ عامين شغلتنا خلالهما الأحداث الجسام.. وعلى رأسها جائحة كورونا التي عصفت بالعالم وكانت لها انعكاسات كبيرة على كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والإنسانية، مشيرا إلى أن هذه الجائحة أثبتت مُجددًا أهمية دور الإعلام في حياة المواطن العربي خاصة في وقت الأزمات، حيث تصير مصداقية الوسائل الإعلامية، وقدرتها على الاضطلاع بدورٍ توعوي في نقل المعلومات والرسائل، عاملًا مهمًا في التعامل مع الأزمة، ولعل هذه التجربة مع جائحة كورونا تُمثل دافعًا نحو تعزيز قدرة أجهزتنا الإعلامية على التعامل مع مختلف أنواع الأزمات في المستقبل، وهو فرعٌ بالغ الأهمية، ويتطلب معرفة مهنية رفيعة، وتدريبًا مُستمرًا وارتقاءً بجاهزيةِ الكوادر.
وتابع: "دور الإعلام في تكوين وعي المواطن العربي لا يُمكن التقليل منه، وأظن أن أحداث العقد المنصرم قد كشفت، وبجلاء، عن مخاطر اختراق العقل العربي، وما يؤدي إليه هذا الاختراق من فوضى اجتماعية وسياسية خطيرة، إن صيانة العقل والوعي الجمعي لا تقل أهمية عن تأمين الحدود والتراب الوطني.. فمن العقل تتسرب أفكار قد تهدم الأوطان من داخلها، وتجعلها لقمة سائغة للتدخلات الخارجية والأجندات الأجنبية، وقد رأينا هذا يحدث للأسف في بعض بلادنا وفي جوارنا.. وشاهدنا الخطاب الإعلامي وهو يتحول إلى أداة للتحريض والتخوين المتبادل وإذكاء النزعات الانفصالية التي تعزل الجماعات عن وطنها.. وتقسم أبناء الوطن الواحد على أساس الدين أو العرق، أو حتى الانتماء المناطقي".
واستطرد الأمين العام لجامعة الدول العربية أن الجولة الأخيرة من الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي خلال شهر مايو الماضي، وما شهدته من هجمات وحشية على أهلنا في قطاع غزة.. كشفت مُجددًا عن أن المعركة مع الاحتلال تدور على الشاشات وصفحات الجرائد وصفحات التواصل الاجتماعي، تمامًا كما تُخاض في الميدان في مواجهة المستوطنين وقوات الاحتلال.. إنها معركة بناء الانطباع وتكوين الرأي العام وتشكيل الوعي بهذه القضية.. سواء وعي المواطن العربي، أو المراقب من خارج عالمنا العربي.. ومن يُتابع وقائع هذا الصراع الطويل يُدرك إلى أي مدى تهم "الرواية" أو "السردية" في تشكيل الرأي العام العالمي حيال ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. بل وما يجري داخل إسرائيل أيضًا،وبرغم أن الدعاية الإسرائيلية طالما نجحت في تصوير الضحية وكأنه ظالم معتد.. وصاحب القضية وكأنه ممارس للعنف والإرهاب.. فقد لمسنا مؤخرًا تغيرًا نوعيًا في "السردية" السائدة حول فلسطين خلال المواجهات الأخيرة... لقد أدرك الكثير من المدافعين عن الحقوق حول العالم أن الطبيعة العنصرية لما يجري في فلسطين صارت من الفجاجة بحيث يستحيل اخفاؤها ويصعب تجميلها.. ولأول مرة، استخدمت على نطاق واسع مفاهيم مثل "التطهير العرقي" و"الأبارتايد" لوصف ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. ترددت كلمات مثل هذه على ألسنة سياسيين وصناع رأي وحقوقيين.. ظهرت في كبرىات الصحف في وسائل الإعلام.. بعد أن كان مجرد نعت السياسة الإسرائيلية بهذه الأوصاف -المستحقة بالتأكيد- من المحرمات".
واستكمل أبو الغيط خلال كلمته أن هذا التغير النوعي في الوعي يقتضي من الإعلام العربي تنبهًا وجهدًا أكبر من أجل الاستفادة منه والبناء عليه وتعزيزه.. وكثيرًا ما يقع الإعلام العربي -للأسف- في فخ الحديث إلى الذات، والانغماس في مخاطبة الداخل على حساب التفاعل النشط مع الخارج... إن كل أرض نتركها يتمدد فيها خصومنا.. وكل فرصة نضيعها يقتنصها الطرف الآخر المتربص ليروج لسرديته مهما كانت بعيدة عن الواقع، أو مستندة إلى الوهم والتضليل، وعلى سبيل المثال، فإن الكثيرين عبر العالم لا يعرفون بفحوى مبادرة السلام العربية التي أُطلقت قبل ما يقرب من عشرين عامًا.. لا يعرفون أن الجانب العربي قدم التزامًا بسلام وتعايش كامل، في مقابل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.. إن التمرس الإسرائيلي في قلب الحقائق.. وتلبس هيئة الضحية.. نجح، وللأسف، في تغييب حقائق جوهرية عن هذا الصراع عن أذهان الكثيرين عبر العالم... ونحن نتحمل بكل تأكيد نصيبًا من المسئولية عن هذا الوضع".
وذكر أن التحدي أمامنا اليوم هو صناعة محتوى إعلامي قادر على الوصول إلى الآخر والتأثير في قناعاته حيال قضايانا الرئيسية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.. إننا في حاجة إلى خطاب جديد يتوجه إلى العالم بلغته، وبالمنطق الذي يفهمه.. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، فإن التعريف بواقع الاحتلال الإسرائيلي.. وما ينطوي عليه من مظاهر التطهير العرقي والتفرقة العنصرية.. ينبغي أن يُشكل ركيزة خطابنا الإعلامي وجوهر رسالتنا للآخر.
واستفاض أبو الغيط: "لقد نجح الفلسطينيون.. وهو أمرٌ ينبغي أن نفخر به جميعًا.. في أن يصلوا بقضيتهم إلى الملايين عبر العالم.. إنها قضية شعب يتعرض لنوع من الاحتلال اختفى من الدنيا ولم يعد له وجود سوى في فلسطين.. وهي قضية تتشابك وتتلاقى مع حركات اجتماعية وسياسية أخرى عبر العالم.. بعضها يُكافح العنصرية وبعضها يرفض الاحتلال على أساس حقوقي وإنساني.. ولنا مصلحة أكيدة في التواصل معها.. والتأثير فيها، والاستفادة من وجودها وثقلها وتضامنها مع قضايانا".
وواصل أبو الغيط أن ثمة حاجة للاستفادة من موجة التعاطف الدولي والزخم الإعلامي الحاصل مع القضية الفلسطينية سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي التي تلعب دورًا مركزيًا في حشد المؤيدين، خاصة في فئات عمرية صغيرة... ومن هنا فإننا ندعو كافة الدول الأعضاء إلى العمل بصورة حثيثة على تحديث خطة التحرك الإعلامي العربي في الخارج التي أقرها مجلس وزراء الإعلام العرب لعام 2006... والتي تمت مراجعتها أكثر من مرة وتحديثها حتى عام 2017... وفي ضوء الظروف الحالية، فإنه يجدر أن تكون القضية الفلسطينية من المحاور الأساسية في خطة التحرك بعد تحديثها، وأظن أن هذه الخطة يتعين أن تتضمن كذلك عناصر تُشير إلى ما يمكن تسميته بحركة التحديث الشامل الجارية في عدد كبير من الدول العربية.. هذه الحركة التي نشهد جميعًا تفاعلاتها ومظاهرها وأثرها المهم في تغيير المجتمعات العربية وتطويرها.. وهي حركة لها أبعاد اقتصادية وفكرية ودينية ومجتمعية.. ومرة ثانية.. لا ينبغي أن نترك للآخرين رسم صورة عن مجتمعاتنا وما يجري فيها، بل علينا أن نبادر نحن بتكوين هذه الصورة.. دون أن يعني ذلك أن ننخرط في تجميل الواقع أو التغطية على مشكلاته.. المطلوب حقًا هو تقديم الصورة بأبعادها المختلفة.. وبصعوباتها وتحدياتها الحقيقية.. من دون تهويل أو تهوين".
وأكد أن للإعلام دورًا مهمًا في تهدئة الأجواء العربية.. وتعزيز روح العمل المشترك والأهداف الواحدة بين الدول العربية.. والأهم بين الشعوب العربية.. ولا يخفى ما تقوم به منصاتٌ خارجية من جهد خبيث يستهدف ضرب وحدة الصف العربي... وإشاعة روح الانقسام والفتنة بين الشعوب العربية وبعضها البعض.. وعلى إعلامنا مسئوليةٌ كبيرةٌ في التصدي لهذه الرسائل السلبية.. وفي تعزيز الانتماء إلى الهوية العربية الجامعة.. وإلى الثقافة العربية التي نفخر بها جميعًا.. فعلى هذه المشتركات يتأسس التواصل بين شعوبنا.. وهو تواصلٌ قائمٌ، في المجالات الفنية والثقافية، على نحو يتجاوز الحدود بين الدول.. ويختصر المسافات بينها... ولا بد من تعزيز هذه المشتركات في رسائلنا الإعلامية وفي الخطاب الذي يتبناه قادة الرأي في العالم العربي.