الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أوهام طارق دويري وجدليات المسرح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تجسيد الوهم على خشبة المسرح مشروع شغل بال المخرج طارق دويري منذ أكثر من 6 سنوات، حيث كنت قد شاهدت لطارق عرض المحاكمة في 2014، وكان العرض لا يخلو من تجسيد الوهم بعض الشيء لدرجة أن في ذلك العرض كان هناك استراحة للمشاهدين لم يعرف المشاهد إن كانت هذه استراحة أم لا، لأن الموسيقى الحية ظلت تلعب في الاستراحة وتغيير الديكورات في ظلام المسرح الدامس أبرز أشكالا شبحية تتحرك بشكل راقص يمينا ويسارا وكأنها جزء من العرض أو الوهم ثم انقطعت الكهرباء نتيجة عطل في الشبكة الأم لكن ظلت الطبول تدق والآلات الحية تلعب لم يعرف المشاهد أيضا أن كان هذا انقطاع حقيقي للكهرباء أم لعبة وهمية من ألاعيب المخرج.
يحلق طارق دويري في سماء الوهم من جديد في عرضه الأخير "المسيرة الوهمية" الذي عرض آخر ليالي موسمه الأول أمس الأول على مسرح الهناجر ليمنح لنفسه كمخرج سلطات أكبر على الوهم من التي منحها لنفسه في عرض المحاكمة الذي كان موضوع النص المترجم فيه جدليا وواقعيا بشكل قلل كثيرا من الاستمتاع بالتيار اللاواعي الساحر لصور وتكوينات دويري وهو ما راعاه في "المسيرة الوهمية للتفاهة".
دويري فكك تسلسل السرد وبعثره جعل الحوار موسيقيا مفعما بالاستعارات والتشبيهات والمجازات في مواضع ومجردا وغامضا في مواضع أخرى فصيحا في مشاهد وعاميا في مشاهد أخرى؛ كانت فرشة جيدة من وجهة نظري ليدفع المشاهد دفعا للسباحة معه في بحر الصور أكثر من اللغة.
قدم دويري في "المسيرة الوهمية" سردا بصريا مدهشا يسير بشكل متناغم مع الموسيقى الحية؛ كانت عناصره الأساسية في تشكيل صوره؛ الإضاءة والأزياء ووشوش الممثلين وأجسامهم بدرجة تشعرك أنه تقمص شخصية رسام بورتريهات وهو يختارهم ثم غاص في بحر صوره ليقدم لنا تحفة بصرية بديعة؛ 3 كشافات في مواجهة الجمهور يعطوا إيحاء بأن هنالك في الظلام جرار قطار قادم سيدهس الجميع؛ صنع ظلاما شبحيا خلف المستوى الأول للإضاءة جعل الخشبة تبدو للناظرين أنها ممتدة إلى مالا نهاية ليس لمساحتها الخلفية نهاية كما في التصوير الباروكي (لوحات ريمبرانت نموذجا؛ دورية الليل، سوزانا والشيوخ إلى آخره).
يطول نفس طارق للسباحة في لاواعيه منتجا عشرات الصور منها ما يتمس مع ذاكرتنا الجمعية في أعمال لا تنسى؛ بالنسبة لي رأيت تكوينا تماس مع شريف عرفة في فيلم المنسي مشهد بوكس السكة الحديد الذي ظهر مضيئا في حلم المنسي وترقص أمامه راقصة ببدلة شرقية راودت المنسي في حلمه؛ أيضا مشهد محاكمة الطفل في فيلم حدوتة مصرية ليوسف وهو في صراع بين امرأتين أمه وزوجته؛ تبادر إلى ذهني أيضا لوحة الجوع لعبدالهادي الجزار وكأن أبطالها بمالبسهم الممزقة وأجسامهم الهزيلة بداخلها قد تحركوا ليشكلوا مسيرة ما؛ صور فيديركو فيلليني السيركية بأقمشة شخصياتها الحمراء لم تغب عن بالي في عاصفة السرد البصري التي ينفثها طارق في أعيننا.
رغم أن طارق وظف الأزياء بشكل دقيق إلا أنني أرى أن هنالك خامات أجود لو موجودة كانت ستعكس مع الإضاءة إبهارا أعظم مما حدث؛ أخذت مثلا وقتا في تحديد لون بنطلونات لاعبي السيرك الطويلة إن كانت حمراء أم برتقالية (من الممكن أن تكون المشكلة في كفاءة المخاريط اللونية في بصري وليست في الخامات).
الحياة، الموت، كيف جئنا؟؛ كيف نعيش؟؛ ما الذات؟؛ ما علاقتها بالسلطة؟؛ ما السلطة؟، من يشكلها؟؛ هل تنتهي يوما ما؟؛ هل هناك فعلا حرية؟؛ وإلى آخره من الإشكاليات اللغوية الوجودية يطرحها نص المسيرة الوهمية للتفاهة ويغوص طارق في تصويرها؛ لكن فرض طارق سطوته البصرية على جميع عناصر العمل قد يضيف مفهوم المخرج المسرحي كجدلية كبرى في العمل بجانب جدلية الكاتب والممثل؛ الإغريق اختزلوا المسرح في كاتبه والمحدثون وضعوا هالة ضوء حول الممثل.
عند طارق دويري أشعر بأن الموضوع يختلف وهو مهووس بإخراج مكنة السرد البصري في دماغه لأقصى مدى يريد أن يسبح في الضوء أكثر وأكثر العرض اقترب من الــ 3 ساعات وعصف الصور لم يهدأ؛ مقارنة بالمحاكمة (عرضه السابق) خفف كثيرا من سطوة النص وسطوة الممثل في العرض الحالي معززا ملكاته كمخرج مسرحي أكثر فأكثر؛ أسلوبه الفريد في تناغم الإضاءة مع المزيكا مع حركة الأعداد الضخمة نسبيا للمثلين يسهل عليه أن يطرح فرديته بشكل دقيق؛ هذا الأسلوب يجعل احتمالية تخليه عن الكاتب والممثل واردة، فهوسته بالأجسام والوشوش قد تخدم صوره أكثر من الأداء أي أنني لا أستبعد أنه من الممكن أن يلتقي مثلا بائعة جرائد في مكان ما ويقنعها بالتمثيل في مسرحه ما دام قالبها الطبيعي قد شكل لوحة جديدة في رأسه؛ أيضا لا أستعبد تخليه عن ترابط نص وعمقه وجدلياته في سبيل صوره والحالة الفطرية التي تطرحها وتكون صريحة مع المشاهد أكثر من زيف الجدليات والخوارزميات الكتابية؛ طارق دويري في نظري مسرحي متفرد يحتاج إلى مزيد من النقاش حول تجربته.