ربما كانت اللحظة التى وصل فيها الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى سدة الحكم، هى الأنسب لرجل فى مثل صفاته يواتيه العمل على دروب تحفها ألسنة النار.
كانت مصر داخل أتون حرب مستعرة على الجبهات كافة، داخليًا وخارجيًا، اقتصاديًا وسياسيًا، عسكريًا وحتى اجتماعيًا وثقافيًا؛ وتحتاج لقائد تاريخى يملك مشروعًا واضح المعالم للمستقبل، واعٍ بطبيعة الحرب التى هو بصددها، يجيد مختلف فنون المواجهة والقتال، مقاتل يدرك أن عقله هو من يدير سيفه.
بقدر ما كانت تلك اللحظة قاسية وكئيبة لاتبدو فيها بارقة أمل أو ثقب للنفاذ خارجها؛ بقدر ما كانت ضرورة لابد منها لإنقاذ أمة أصابها الترهل وتفككت مفاصلها، وتبدلت قيمها النبيلة بأخرى جعلتها تبدو أمة مهزومة أمام أفكار وأيديولوجيات ومصالح وأجندات تريدها أمة خاملة تسبح فى بركة من فساد الأخلاق والقيم والمعتقدات.
عندما تركن أمة إلى الاستقرار الزائف والإحساس بأنها تعيش فى سلام أبدى لا يزعزعه تهديد خارجى أو تحدٍ داخلى، تفسد أخلاقها وتضعف مناعتها، ويصيب الوهن عضلاتها، فإذا دام ذلك الاستقرار الوهمى ثلاثين عامًا أو يزيد مع تغلغل جماعات إسلاموية طفيلية بأفكارها وعقائدها الخربة التى تضرب هوية الأمة بمعول حاد بينما هى تظن فيها الصلاح والإصلاح يصبح من الضرورى أن تدخل هذه الأمة أتون حرب مستعرة؛ فإما تفيق وتنهض وإما تنكسر وتذهب ريحها للأبد.
المواجهة كانت على جميع الاتجاهات، أفكار وعقائد فاسدة، جماعات إرهابية تقتل وتذبح وتفجر، اقتصاد كسيح، نخبة سياسية وثقافية جاهلة أو عميلة، خارج متوتر، مؤامرات تسعى لحصارنا بمدافع الإرهاب من كل حدب وصوب، وفوق ذلك كله نظام تعليمى عاجز وخطاب سياسى وثقافى منحط ناهيك عن تدهور معظم الخدمات والمرافق الأساسية.
حروب عديدة يلزمها قائد استثنائى يدرك أن خوضها بوعى وإخلاص ضرورة حتى يقوى بأس أمته تمامًا كما يقوى زند الفارس كلما ضرب بسيفه.
ومنذ تولى السيسى منصب وزير الدفاع بدأت تتواتر أخبار تدريبات الجيش ومناوراته العسكرية وتفتيش الحرب وحتى هذه اللحظة لا يكف الجيش المصرى عن التدريب والدخول فى مناورات مشتركة مع كل حلفائنا فى الغرب والشرق وكأنه فى حالة حرب دائمة يريده جيشًا قويًا مستعدًا لأى لحظة مواجهة لا يباغته عدو، بل ولا يجرؤ غازٍ على الاقتراب من حماه لا فى الغرب أو الشرق ولا حتى فى مياة المتوسط أو منابع النيل العظيم.
النهج ذاته كان فى مواجهة حالة الفوضى والسيولة والاجتراء على دولة القانون فكانت حروبًا ضارية ضد من اعتقدت نفسها جماعات ضغط فوق الدولة سواء فى النخبة السياسية والثقافية أو الاقتصادية، وقد عبر عن ذلك الرئيس السيسى بعبارته الشهيرة "ليس هذا وقت الموائمات السياسية وإنما وقت تطبيق القانون ليعرف كل منا حدوده" وكان ذلك إشارة لإحدى الأزمات التى جسدت اعتقاد البعض أن مكانته كنخبة قد تتيح له خرق القانون.
الحرب ضد الإرهاب وأفكاره المرتبطة بخطاب دينى قديم بات عاجزًا عن إقامة الخلق وتهذيب النفوس تمت إدارتها بنفس المنهج فأطلق الرئيس مع حملته الانتخابية بالولاية الأولى دعوته لتجديد الخطاب الدينى وكان واضحًا وصريحًا بدرجة هزت عروش أصحاب العمائم، وفيما انسحبت النخبة الثقافية من تلك المعركة وإن شئت القول الحرب الضروس ولسان حالها يقول إذهب أنت وربك فقاتلا أرباب التطرف والتشدد وحدكما، لم يترك السيسى ساحة الوغى وراح يطرح الأفكار تلو الأفكار وكأنه قصد إحداث صدمة تدفع المجتمع ليكون شريكه عبر آلية النقاش فى تلك الحرب، وهى بالمناسبة لا تقل فى خطورتها وضراوتها عن ميادين القتال التقليدية فهو كمن يمشى على حد سيف، فإما يقطعه بتهمة التكفير والتجديف وإما قطعه هو بقوة الحجة والإرادة فى التغيير.
يدرك السيسى أن مشروعه لبناء دولة جديدة وتأسيس جمهورية ثانية لن يستقيم بينما الأمة غارقة فى بحر من الأفكار والخرافات التى يعتقد أنها أصل العقيدة أو جزء منها وهذا بحسب تعبيره هو، فتلك الأفكار ليست فقط سببًا لشيوع التطرف والتشدد ومن ثم الإرهاب وإنما أيضًا فى تراجع قيم النزاهة والشفافية والصدق والعمل لصالح قيم الفهلوة وشرعنة الرشوة بفتوى رسمية والكذب والتدليس والغش والإهمال.
بالتوازى مع هذه الحرب لخلق خطاب دينى حديث عمل على تمكين التكنولوجيا فى كافة القطاعات ليس فقط لتحسين الأداء وإنما أيضًا لمجابهة شتى صور الفساد والحد منه بوعيه بأن التكنولوجيا هى الوسيلة المعاصرة لضبط ميزان القيم؛ وكذلك على إحياء الهوية المصرية بجذورها القديمة وما تمثله من قيم انتجتها حضارة الأجداد وقد تجسد ذلك فى موكب المومياوات المهيب.
بالمثل كانت الحرب ضد أفكار وقيم بالية بشأن الاقتصاد حيث كان تثبيت سعر الدولار من المقدسات التى دمرت بنية الاقتصاد المصرى فكانت ثورة الثالث من نوفمبر لعام 2016 عندما أعلن تحرير سعر الصرف، هى الأخرى كانت حرب ضروس ضد حماعة من المحتكرين والمنتفعين بأنه ارتبط بإجراءات اقتصادية أخرى لم يكن أبرز نتائجها كسر الاحتكار فى كثير من السلع الحيوية وإنما كان من محصلة تلك الثورة الاقتصادية الشاملة لإعادة بناء الاقتصاد المصرى على قواعد سليمة ترشيد الاستهلاك ليقتصر على الضرورى والمهم سيما وأننا فى لحظة بناء أو بالأحرى حرب من أجل البناء.
أحدهم قال "صحيح أن أسعار الطاقة من كهرباء وبنزين زادت لكننا رأينا توابعها فى بناء جيش قوى ودولة مستقلة فى قرارها السياسى والاقتصادى كفت عن الاعتماد على مساعدات الأشقاء ناهيك عن برامج الرعاية الصحية وإزالة العشوائيات ودعم الأسر الفقيرة والمشروعات القومية من طرق ومصانع ومزارع".
سبع سنوات عبرتها مصر على طريق النار برفقة قائد يدرك جيدًا أنه مهما حقق من إنجاز أو انتصار فإن ذلك لا ينعنى نهاية الطريق أو أن دربه لم تعد تحفه ألسنة اللهب وكل انتصار يعنى ظهور تهديد جديد وكل إنجاز يتلوه بالضرورة تحدٍ قد يكون أصعب مما سبقه.
بعبارة أخرى نحن أمام قائد لا يفرح بانتصار ولا يطمئن لإنجاز ويعى أن عقل الأمة وضميرها وزندها لا يحتفظ بقوته ورجاحته وبأسه وصلابته إلا باليقظة الدائمة والمواجهة المستمرة وأن التهديد الحقيقى لسلام الأمة يكمن فى الاعتقاد أنها باتت تعيش بلا مخاطر أو تحديات، وأن اللئام حادو عن دروبها.