الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

أحمد عبدالمعطي حجازي.. 60 عامًا من الشعر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تتفرد أعمال الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي - الذي يحتفي الوسط الثقافي بمناسبة ميلاده هذه الأيام - بأنها ظلت منذ عقود وحتى الآن محط أنظار الباحثين، واعتبرها بعضهم بمثابة النور الذي يُضيء سماء الأدب العربي، ومنارة للدارسين في حقل النقد الأدبي واللغوي؛ حيث تميزت تجربته الشعرية بأنها تمتلك من مقومات الإبداع ما يؤهلها للدراسة والبحث. هكذا، ومنذ ديوانه الأول "مدينة بلا قلب" الذي كتبه عام 1955، بقى الأبرز في العديد من الدراسات، سواء على مستوى اللغة الشعرية، وعلاقتها بالمكان والزمان، وحتى مفردات حجازي التي ميزته عن الكثير من أبناء جيله.
أعمال حجازي، الذي ينحدر من أسرة ريفية عملت بالزراعة في تلا الواقعة في محافظة المنوفية، وشهدت أولى صرخاته عام 1935، تبدو مدرسة واضحة المعالم في خريطة الشعر العربي المعاصر، ليبدو أن الرجل الذي تلقى تعليمه عندما كان صغيرًا في كتّاب القرية فصار منذ طفولته حافظًا للقرآن الكريم ومُلمًا بالكثير من أصول اللغة العربية، شكّل في اختلافه مع الأصوات الشعرية الأخرى، أحد الينابيع الرائدة في بناء القصيدة العربية الحديثة، وبقى متميزًا بخصوصية تفردت بأبعادها الفكرية والفنية، ضمن المدرسة ذاتها. ربما لذلك حظى على مدى عمره الشعري المديد بجمهور واسع من قراء الشعر الحديث ونقاده ومتابعيه، والذين وجدوا في شعره ذلك التواشج الداخلي بين التطلع إلى آفاق المستقبل في بناء قصيدة حديثة، دون التفريط المجاني بعصب ومفاصل القصيدة العربية التقليدية.
قبل أن يتجاوز العشرين من عمره، خاض حجازي أولى معاركه مع قامة فكرية عملاقة هو الأبرز في عالم الثقافة في خمسينيات القرن الماضي، الشاعر والمفكّر عباس محمود العقاد، والذي كان يرى أن ما يكتبه جيل الشعراء الجدد من أمثال حجازي وصلاح عبد الصبور ليس سوى "عبث نثري!"، حسب وصفه. لذلك رفض العقاد مشاركة هؤلاء الجُدد في مهرجان الشعر في العاصمة السورية دمشق، بل وبلغ رفضه لهم أنه هدد كذلك بالانسحاب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. في الوقت نفسه، وبناء على رأي العقاد فيه، أحالت لجنة الشعر بالمجلس إحدى قصائده إلى لجنة النثر باعتبار أن اللون الشعري الذي انتهجه "ليس شعرًا"، كما جاء في تقرير الإحالة. حكى حجازي عن ذلك الموقف قائلًا: "شعرت بالاستفزاز من العقاد لأنه بالغ في رد فعله حول أشعاري"، لم يكن يعلم أن القدر يُخبيء له المنصب نفسه فيما بعد، ليحتل موضع العقاد في لجنة الشعر بعد أعوام عديدة، وكما فعل العقاد، كانت مواقفه مع قصيدة النثر في رأي الكثيرين أسوأ من العقاد الكلاسيكي الذي احتقر قصيدة التفعيلة حين بدأ يكتبها حجازي. وقتها برر ذلك بقوله: "الصراع بين الجديد والمحافظ، سمة كل عصر. لكن الفرق بيني وبين العقاد أنّه استخدم سلطة الدولة لمواجهة النص الذي كنّا نكتبه. أظن بأنّني لم أستخدم سلطة الدولة لفرض تصوراتي". رغم ذلك، بقى حجازي في أشعاره أمينًا على القصيدة التي يكتبها، معمقًا ومتسعًا في مشهده الشعري الخاص، رغم أنه اعترف مرات عديدة أنه كان مُقلًا في الكتابة لأسباب لم يعلن عنها.
خلال كلمته بحصوله على جائزة أحمد شوقي لاتحاد كتاب مصر قال حجازي "إن الشعر هو اللغة الأولى والحميمة الجامعة التي كان الإنسان يعبر بها عما كان يراه ويسمعه ويحسه ويفكر فيه وينفعل به ويتخيله يطلبه ويتمناه، والشعر بطبيعته هذه هو المعرفة أو هو أصلها، فقبل أن تكون اللغة علمًا كانت شعرًا، وقبل أن تكون تقريرًا كانت تصويرًا، وقبل أن تكون إشارات كانت موسيقى، والشعر ما زال هو هذه اللغة الأولى حتى الآن، ولهذا نحتاج دائمًا للشعر". هكذا فاجأ مُتابعيه ومُناهضيه الذين قالوا أنه قد اكتفى من الشعر في مايو 2009 بقصيدة له نشرتها صحيفة الأهرام في ملحقها ليوم الجمعة بعنوان "خارج الوقت"، كانت نوعا من تأكيد الحضور الشعري، ورَدّا قويًا على الأصوات المُعارضة؛ فجاء يحمل في إحالاته العديد من الإزاحات المباشرة وغير المباشرة، وكلها في تقييم البعد الشعري لا تعطي القارئ أو الناقد مفاتيح، بقدر ما تزيد في عدد الأبواب المغلقة التي عليه أن يجتازها.
ويخلص الباحث أمجد محمد سعيد قصيدة "خارج الوقت" للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، واحدة من أهم قصائده التي عبرت فعليا عن طبيعة شعره وطبيعة تناوله لمقاصد موضوعاته، وأثبتت أنه لا يزال أمينا على لغته وإطار تجربته الشعرية والفنية العامة. وأثبت أنه متابع:"لا يزال يمتلك ناصية القصيدة ويوجهها إلى ما شاء من أنحاء المعنى، وفضاءات المبنى، ما زال حجازي يمثل تلك المدرسة الشعرية الفنية التي تهتم ببعض الثوابت التي تخدم قصيدته وتمثلها، وفي مقدمة تلك الثوابت لغته الواضحة المفهومة والتي لا تستعصي على القارئ المتخصص والعادي أيضا، اللغة السلسة بمفرداتها القريبة، ومعانيها المحددة التي اختارها الشاعر بدقة كبيرة، لكي تؤدي معناه المقصود. وهي لغة قريبة من النفس، ولكنها لا تخرج من حيزها إلى مواقع اعتباطية ضبابية.
ومن ثوابت القصيدة هذه، وهي ثوابت حجازي، اهتمامه الكبير بموسيقى الشعر، وتأكيده على الالتزام بالتفعيلة، مع الاهتمام الواضح بالقافية التي تشد القصيدة من أولها إلى آخرها، والتي يعرف الشاعر، كيف يجعلها تُفعِّل تنويع الموسيقى العامة في القصيدة كلها. كذلك قدرته الهندسية الدقيقة في بناء القصيدة، وعلى تشكيل وتوظيف المسافات بين مقطع ومقطع، وبين جملة شعرية وأخرى، بحيث يعرف كيف يريح القارئ، ويترك له المجال لالتقاط أنفاسه، وحتى لترك مساحة زمنية للتأمل والتفكير. ناهيك عن توفير التوازن بين هذه الجمل والمقاطع.
ظل حجازي يعبر عن المضمون السياسي والاجتماعي، في الكثير من نتاجه الشعري، معالجا قضايا وطنية وقومية وإنسانية. لكنه، رغم ذلك، أثار العديد من المعارك بينه والمبدعين، والتي بدأت بعد عودته من العاصمة الفرنسية باريس، والتي كان قد سافر إليها بعد خلاف مع نظام الرئيس الراحل أنور السادات، حيث تولى رئاسة تحرير مجلة "إبداع"، وهي المكان الذي شكّل موضع الكثير من معارك حجازي بداية منذ العدد الأول الذي كتب فيه مقاله الشهير "صفوة وحرافيش"، والذي قسّم فيه المبدعين إلى صفوة يُسمح لهم النشر في المجلة، وحرافيش لا يحق لهم النشر؛ وهو المقال الذي تسبب في مقاطعة معظم المثقفين للمجلة؛ بعدها أرسل أحد أساتذة جامعة الإسكندرية إلى رئاسة الجمهورية رسالة حذّر فيها من استيلاء اليسار على الثقافة، ورئاسة تحرير كل المجلات الثقافية، وقد كان يقصد حجازي، وغالي شكري الذي كان يرأس تحرير مجلة "القاهرة"، وجابر عصفور الذي يرأس مجلة "فصول"، وقد نشر حجازي الرسالة التي قيل إن نشرها أثار غضب مؤسسة الرئاسة؛ ثم أثار خلافًا جديدًا بسبب لوحة للفنان جوستاف كليمت نشرها في المجلة، عندها اتهمه المنتمون للتيار الإسلامي بأنها تخدش الحياء، وقدّم أحد نوابهم استجوابا لوزير الثقافة بشأنها في مجلس الشعب -مجلس النواب حاليًا- وبعد ذلك أثيرت أزمة أخرى بسبب نشر قصيدة للشاعر عبدالمنعم رمضان بعنوان "أنت الوشم الباقي". بعدها اتسعت معارك حجازي لتشمل الهيئة المصرية العامة للكتاب، ناشرة المجلّة، إذ اعترض الراحل سمير سرحان، رئيس الهيئة الأسبق، على نشر مقال للناقد المسرحي فاروق عبدالقادر، ينتقد فيه عملًا من أعمال سرحان؛ ثم جاء احتجاج بعض أهالي طلبة الجامعة الأمريكية على تدريس كتاب "محمد" لمكسيم رودنسون و"النبي" لجبران خليل جبران، فنشر حجازي نماذج من كتابات رودنسون، كي يحكم القارئ بنفسه، لكنّ عمّال المطبعة أرسلوا شكوى إلى رئيس الهيئة الذي قام بوقف العدد، ولم يعد أمام حجازي سوى الاستقالة من رئاسة تحرير المجلة.
أمّا عن الإخوان، فقد خاض حجازي أمامهم معركة كبرى، توّجها بالاستقالة احتجاجًا على قرارات وسياسات وزير الثقافة الإخواني علاء عبدالعزيز، وهو ما دفع آخرين للتقدم باستقالاتهم تضامنًا معه واعتراضًا على الفكر الإخواني، منهم فاروق شوشة وحسن طلب؛ وجاء في الاستقالة التي أعلنها: "إنها خطة مدبرة للانفراد بالسلطة والبقاء فيها وتزوير التاريخ وإسقاط الدولة وتدمير مؤسساتها وانتهاك الحقوق والعدوان على الحريات والتنكيل بالمعارضين. وأنا في مواجهة هذه الحرب الشرسة المعلنة على قوى الديمقراطية والاستنارة في مصر أعلن استقالتي وأرفض العمل في هذا المناخ".
هكذا يظل حجازي رمزًا كبيرًا ورائدًا من رموز الشعر العربي، وقد جسّد هذا في قوله: "مكان الشعر في حياتنا هو مكان اللغة والثقافة وليست هناك لغة أو ثقافة بغير شعر، ولأن اللغة ماتت في العصور التي سبقت هذا العصر، فقد مات الشعر فيها، ولأننا نهضنا من جديد في هذا العصر الحديث فقد نهض الشعر ونهضت اللغة، وفي هذه النهضة لعبت مصر الدور الأول الذي مثله أحمد شوقي أمير الشعراء ونحن في هذا الطريق نواصل السير، وأن الشعر هو تراثنا وتراث الإنسانية".