لا يُمكن الإشارة إلى الفنان العملاق محمود مرسي باعتبار ممثلًا رائعًا ترك مجموعة من الأدوار المميزة في تاريخ السينما والدراما المصرية؛ بل -إذا أردنا الحديث عنه- فلا يُمكن أن نفصل دوره كواحد من رموز القوة الناعمة في عصر تميزت فيه الفنون المصرية في كافة مجالاتها.
لم يكن مرسي، الذي تحل اليوم الاثنين ذكرى ميلاده، مجرد ممثل يتقن الدور الذي يقوم به، بل هو كما كتب الناقد عبدالفتاح البارودى عن دور «عيسى الدباغ»، الذى قدّمه باقتدار وبراعة الفنان الراحل محمود مرسى في رائعة الأديب العالمى نجيب محفوظ «السمان والخريف»: تحمّل مسئولية دور يُمثّل تاريخ جيل عانى متناقضات ضخمة، صوّر الضياع بوعي. ومثّل المتناقضات بدون افتعال». هكذا اختصر البارودى ما عرفناه فيما بعد لعقود طويلة من قدرة وعبقرية الفنان الراحل في تجسيد أدواره التى ظلّت حيّة في تاريخ الفن المصرى عبر الشاشة الفضية، ومن بعدها الدراما التى غزت كل بيت عبر الصندوق السحرى (التليفزيون).
بقى الرجل ذو البنية الفارعة والكاريزما الهائلة في أذهان عُشّاق الفن، مهما تغيرت ملامحه حسب الدور الذى يؤديه، وكيفما تنوّعت نظراته من الصرامة التى تبث القشعريرة في النفوس وهو يؤدى دوره الأشهر «عتريس» في فيلم «شيء من الخوف» الذى اتخذ مكانته الرفيعة في تاريخ السينما منذ عرضه الأول في فبراير من عام 1969، إلى الأبوة الجارفة في مسلسل «العائلة» الذى وقعت في أسر متابعته كل عائلات مصر عند عرضه الأول عام 1994؛ وكل ما سبق أو تلا كليهما خلال المشوار الطويل الذى جسّده هذا العملاق الذى رحل عن عالمنا في عام 2004 عن عمر ناهز 81 عامًا.
في بداية حياته، حاول مرسى جاهدًا ألا يقع في شباك التمثيل. ربما كان يكرهه لما وجده من الاحتقار الذى واجهه من قِبل كل من عرفهم في مدرسته الإيطالية التى شاء قدره أن يدرس فيها إبان الحقبة الفاشية التى انتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية. وقتها كان أبناء الدوتشى -موسولينى- من الطلاب والمدرسين يتعاملون بتعالٍ شديد مع ذلك المصرى الذى وجدوه بينهم، وكرد فعل لا يقل تعالٍ عنهم، كان بدوره يتفاخر بمصريته، لذلك ابتعد عنهم حتى التحق بكلية الآداب. هناك وجد عملاق المسرح جورج أبيض مدربًا لفريق التمثيل في الكلية. أُعجب الفتى به وأراد أن يُصبح مخرجًا مثله، أن يُحرّك الممثلين أمام الشاشة لا أن يكون بينهم؛ وفى البداية ظن أنه قد استطاع الحصول على ما يُريد، لكن القدر كان يُخبئ شمسه الساطعة في التمثيل الذي كان يزهده.
في العام 1951 باع ابن الإسكندرية المتحمس لحلمه -وكان آنذاك لا يزال ابن الثامنة والعشرين- البيت الصغير الذى ورثه، ليُسافر إلى فرنسا كدارس للإخراج السينمائي. هناك أصبح واحدًا من الدارسين في معهد «الايديك»، لكنه لم يُمارس الإخراج بعد انتهاء الدراسة، بل ظل في العاصمة باريس ليعمل بالإذاعة الفرنسية، وألقت الظروف السياسية بظلالها على حياته، ففقد عمله بسبب العداء الذى استعر وقتها بين نظام الرئيس رينيه كوتى والرئيس المصري الشاب الذى خرج من رحم الضباط الأحرار جمال عبدالناصر. هكذا انتقل المخرج الشاب إلى عاصمة الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، حيث عمل لفترة في القسم العربى بالإذاعة البريطانية.
فور اندلاع حرب السويس - «العدوان الثلاثي» - على مصر عام 1956 خرج المذيع محمود مرسى عن النص وقال في بداية برنامجه: "هذه هى آخر حلقة أقدمها في هذه الإذاعة، حيث إنه لا يُمكننى أن أعمل أو أقيم في دولة تشن حاليًا عدوانًا على بلادى وتُلقى بقنابلها على أهلى في مصر، ولتلك الأسباب فإننى أقدم استقالتى على الهواء. سوف أعود إلى بلادى أقاتل بجانب أهلي. أعيش معهم أو أموت معهم". ويروى الكاتب أيمن الحكيم في مقال له بجريدة الشرق الأوسط أن مرسى عندما عاد للقاهرة، أصدر الرئيس عبدالناصر قرارًا بتعيينه مخرجًا ومذيعًا في الإذاعة المصرية تقديرًا لموقفه الوطني؛ فعمل في البرنامج الثقافى وقام بإخراج العديد من المسرحيات العالمية. هكذا حين انتقل المخرج محمود مرسى إلى حقل الدراما عند إنشاء التليفزيون عام 1960، كان يستند إلى خبرة أكاديمية وعملية طويلة، وقد ساعده ذلك عندما ذهب في بعثة مع المخرج حسين كمال إلى العاصمة الإيطالية روما لدراسة الإخراج التليفزيوني، لم يكن كلاهما يعلم وقتها أن اسميهما سيرتبطان بواحد من أعظم أفلام السينما المصرية، أحدهما مخرجًا والآخر بطلًا أسطوريًا.
عندما اختلف مرسى مع عبدالقادر حاتم، الذى كان يشغل منصب وزير الإعلام في العهد الناصري، كان قد استعاد حلمه القديم في الإخراج السينمائي. وقتها أدرك قدره حينما طلبه المنتج رمسيس نجيب للعمل، ظن وقتها أنه أراده مخرجًا، لكن تبين له أنه مدعو للتمثيل لا الإخراج. ربما يكون لحسن حظنا قد استسلم لهذا القدر عبر الأداء المميز والاستثنائى في فيلم «أنا الهارب»، والذى كان أول أدواره أمام ملك الترسو فريد شوقى -الذى كان ملء السمع والبصر في ذلك الوقت- والعملاق صلاح منصور، ومن إخراج نيازى مصطفى. ورغم أن الدور كان صغيرًا، إلا أن مرسى استطاع من خلاله أن يسجّل حضورًا مهمًّا ولامعًا للغاية، تاركًا واحدًا من أهم الأدوار في سجلّه الفني، وفى ذاكرة السينما المصرية على حدٍّ سواء؛ في ذلك الوقت أجمعت الصحافة الفنية على أنه صاحب موهبة ضخمة، بل وشبهته بالنجم الأمريكى ذائع الصيت وقتها «بول برانير».
بعد هذه الانطلاقة الأولى، تعددت أدوار محمود مرسى، حيث تميز بأداء مرهف وصفه الكثير من النُقّاد بأنه بالغ الخصوصية، فقال عنه الناقد الراحل سمير فريد إنه «يؤدى بفهم داخلى للشخصية أداءً مثقفًا وواعيًا»؛ فيما أشار الناقد الراحل حسن فؤاد إلى أنه «لم يستطع ممثل واحد أن يقدم لنا شخصية تجرى في عروقها دماء الحياة إلا محمود مرسي»؛ ليصنع تأثيرًا إيجابيًا في مسار النقد السينمائى المصرى تجاه الممثل، والذى كان يأتى قبل ظهوره في نهاية اهتمامات الناقد، ليدفع مرسى في أدائه للشخصيات المركبة النقاد إلى تأمل أسلوبه، وتصنيفه، وإبراز خصائصه. بعد ذلك كانت بدايته الجادة مع المخرج كمال الشيخ، والذى أسند إليه دور البطولة في فيلم «الليلة الأخيرة» من إنتاج عام 1963، والذى وقف فيه أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة؛ لتبرز طريقته المميزة التى تجلت فيها ثقافته وعلمه وموهبته وسيطرته التامة على سيل الانفعالات الجارف الذى كان من الممكن أن يكتسح أى ممثل آخر؛ فكانت شخصية «شاكر» قد أعطته الفرصه ليستعرض إمكانياته كفنان قدير وعملاق واع ومثقف ومدرك لأبعاد الشخصية التى يؤديها وما يعتمل داخلها من أفكار وانفعالات، وكيفية ظهور هذه الانفعالات دون تقليد أو افتعال. فللحظة ما، لا يملك المشاهد إلا أن يقع في فخ الشك والريبة، ويكون على شفا الاقتناع بصدق دفوع شاكر وادعائه بخلل في عقل زوجته التى تستيقظ يوم فرح ابنتها مُعتقدة أن هذا الزوج والبيت والابنة وحتى اسمها تعود إلى أختها التى لقيت مصرعها على إثر غارة ضربت بيتهم أثناء العدوان الثلاثي. في هذا الفيلم - الذى نال عنه جائزة التمثيل الأولى عام 1964- استطاع تقديم شخصية الزوج المخادع الذى استبدل زوجته المتوفاة بأختها الفاقدة للذاكرة من أجل ميراثها، بمقدرة فذة جعلته ينتقل بالشخصية من مرحلة نفسية إلى أخرى، من الثقة بالنفس ومحاولة إقناع الزوجة بخللها ثم القلق ثم تزعزع الثقة بالنفس وجنون الخوف من ضياع كل ما بناه خلال سنوات حياته ما أدى به إلى ارتكاب تصرفات أوقعت به في فخ افتضاح أمره. وفى فيلم «الباب المفتوح» للمخرج هنرى بركات من إنتاج العام 1963 أيضًا، قدّم مرسى شخصية فؤاد أستاذ الجامعة المثقف ذى الهيبة، الذى يعبر عن الشيزوفرينيا التى يعانى منها المجتمع، فهو ظاهريًا رجل علم وثقافة وشخصية محافظة يقدس النظام والأخلاق ومع ذلك لا يتورع عن فعل أى شىء غير أخلاقى.
ولكن، رغم أدواره المُتعددة حتى رحيله، يبقى الدور الأعظم للراحل محمود مرسى هو «عتريس» طاغية القرية في فيلم «شيء من الخوف» المأخوذ عن قصة الكاتب الكبير ثروت أباظة، والتى كتب لها السيناريو صبرى عزت، وتولى الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودى صياغة حوار الفيلم وأشعاره، التى لحنها باقتدار رفيق رحلته في ذلك الوقت بليغ حمدى وغنتها بطلة الفيلم الفنانة الكبيرة الراحلة شادية. كان الفيلم قد جمع عددا من ألمع نجوم السينما في ذلك الوقت يحيى شاهين، سميرة محسن، ومحمد توفيق، وصلاح نظمي، وبجوارهم الوجه الجديد وقتها محمود ياسين وكان عرضه الأول في 3 فبراير عام 1969. كانت شخصية «عتريس» من أهم الشخصيات المركبة التى جسّدها، وتعتبر أهم محطة في مشواره السينمائي، فالشخصية أصبحت أسطورية يُضرب بها المثل في الظلم والاستبداد. وقدّم مرسى في هذا الفيلم شخصيتى الجد المستبد الطاغي، والحفيد الرقيق مرهف الحس العاشق لفتاة قريته «فؤادة» رفيقة الطفولة والشباب. تنقّل بين الشخصيتين بإتقان المحترف الخبير ببواطن كل شخصية، وقد ظهر ذلك بوضوح في مشهد مقتل الجد وإلحاحه على الحفيد قبل أن يفارق الحياة بأن يأخذ بثأره من الرعاع الذين تجرأوا عليه؛ وانطلاقًا من هذا المشهد الذى يُعّد منعطفًا هامًا في شخصية الحفيد، يتحول عتريس إلى طاغية متخذًا نفس مسار جده، ومع ذلك يظل متمسكًا بجانبه المرهف دون وعى متمثلًا في حبه لفتاته ورغبته في الزواج بها، رغم رفضها العنيد بسبب إيذائه وقهره لأهل القرية.
تعطل عرض الفيلم بعدما صور البعض للرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن مرسى جسّد شخصيته فيه كديكتاتور أصر عبدالناصر على رؤية الفيلم، وأمر بعرضه بعدما أشاد بدور «عتريس» الذى لعبه مرسي. ووقتها كتب صلاح منتصر في صحيفة الأهرام أن جهات معنية بالدولة «اشترت أغلب التذاكر في دور العرض لمنع الجمهور من مشاهدة العمل، حتى تم رفعه من السينمات بعد ثلاثة أسابيع فقط»، بينما يحكى محمود مرسى نفسه عن ذلك فيقول «نزّلوا مكانه فيلم تسجيلى عن الفول المدمس اسمه «المكامير»، «كان بيجيب إيراد 3 جنيه في اليوم». هذه النقطة تقود إلى علاقة محمود مرسى بالرئيس الراحل، والتى كانت مُعقدة للغاية، فبعد الكثير من الحب والتأييد، كشف الفنان الراحل في حوار صحفى مع الكاتبة أمل فوزى في مجلة «صباح الخير» عن أن كل هذا انتهى يوم هزيمة الجيش في نكسة يونيو 1967، قال: «صورة عبدالناصر كانت في قلبي، لكن بعد يوم 5 يونيو ويوم 9 يونيو انكسرت في قلبي، عشان ده اليوم اللى رقص فيه نواب الأمة لمّا عبدالناصر رجع للحكم ومكنش دم الشهداء رجع لسه». لم ينكر الفنان الكبير اعتراف الرئيس بالهزيمة، لكنه اكتفى بإزالة آثار العدوان دون تغيير حقيقى - وفق رؤيته- وأضاف: «كنت متحيزا من البداية لعبدالناصر، لكن طول الوقت كانت حاجات كتير بتحصل بتخلى الواحد مش فاهم، وكل يوم أكتشف حاجة جديدة تخلينى أشعر بفقدان الثقة في اللى نحوا، لدرجة إن أنا أقتنع إن في سيناريو محبوك ضد مصر بينفذه ناس كتيرة بمن فيهم عبدالناصر».
وفى مذكرات المخرج سمير العصفور قال إن محمود مرسى أخبرهم ذات يوم بعد النكسة بأنه أخذ موعدًا من رئاسة الجمهورية لمقابلة الرئيس للفت انتباهه إلى بعض الأمور، قائلًا لهم: «أنا مش فاهم الرجل عبدالناصر مستحمل اللى بيحصل في البلد ده إزاي؟». هكذا توجه إلى الرئاسة بعد مشوار قضاه بمنطقة المعادي، مرتديًا بدلة صيفية وصندلًا في قدميه، دون أن يهذب لحيته، وغاب عن زملائه في المسرح القومى حتى فوجئوا بسماع صوته بعد منتصف الليل في الممر وهو يقول: «أيوه عاوز السمك مقلى وما تنساش السلطات والعيش». كان قد عاد سالمًا بخلاف التوقعات لأصدقائه، وروى لهم ما حدث معه في القصر الجمهوري، حيث قابل أحد المسئولين وتحدث إليه بما كان يجيش به صدره. يروى العصفورى نقلًا عن الفنان الراحل أن الغريب أنه انتظر أى ردة فعل من جانب المسئول بعد فراغه من الحديث، لكنه فوجئ بالآخر يقوم من جلسته ويمد يده مصافحًا إياه قائلًا: «شكرًا يا أستاذ محمود»، قبل أن يأمر شخصًا آخر: «وصّل أستاذ محمود لبرا».
تجلت موهبة الفنان الراحل في أنه ممثل قادر على أن يؤدى أدوارا مركبة لشخصيات تحمل ظلالا عدة وطبقات مختلفة العمق. ساعدته دراسة الفلسفة على الغوص في أعماق النفس البشرية والإمساك بتلابيب كل شخصية ودراسة تاريخها، وفهم سلوكها ودوافعها، وبالتالى استطاع أن يقدم أدواره السينمائية بأسلوب السهل الممتنع.
ففى فيلم «زوجتى والكلب»، المأخوذ عن رائعة المسرحى الإنجليزي الأشهر ويليام شكسبير «عطيل»، والذى تم إنتاجه عام 1971 وأخرجه الراحل سعيد مرزوق، جسّد محمود مرسى شخصية انفعالية تستبد بها الهواجس والشكوك بالزوج الغيور في وحدته في الفنار القابع وسط البحر الهائج المترامى الأطراف، ففى جو العزلة، والحرمان الذى يعيشه «الريس مرسي» في الفنار، لا يستطيع أن يوقف اندفاع خيالات خيانة زوجته الجميلة له، والتى جسّدت شخصيتها السندريلا الراحلة سعاد حسنى في أول تعاون لها مع المخرج سعيد مرزوق كما أظهر محمود مرسى كذلك الوجه القلق، الذى كاد أن يكون ترجمة أمينة صادقة لرؤية الروائى الكبير نجيب محفوظ في اثنتين من أهم رواياته واللتين قام بإخراجهما حسام الدين مصطفى للسينما وهما: «السمان والخريف» الذى عُرض عام 1967 و«الشحات» الذى عُرض عام 1973؛ وفى كلا الفيلمين -وإن اختلفت التفاصيل- يعيش البطل الأزمة نفسها، عندما يشعر بأنه يملك القدرة على العمل السياسى لكن الواقع يضطره إلى أن يعيش منعزلًا في وحدة قاتلة. في عام العبور العظيم نفسه يُقدّم محمود مرسى تنويعة عطيلية أخرى عبر دوره الهائل في فيلم «ليل وقضبان» للمخرج أشرف فهمي، حيث ظهر مأمور السجن الذى لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلًا. بدا وكأنه وحش أسطوري وهو يرى بعينيه، من خلال فتحات خشب النافذة زوجته وهى في أحضان واحد من مساجينه.
عاد محمود مرسى ليُغضب الناصريين عندما قدّم فيلم «أغنية على الممر»، وهو بدوره من إنتاج عام 1973، وهو الفيلم الذى شرح أسباب النكسة؛ لكنه، ورغم اتهام البعض له بأنه كان يُعلّق صورة الرئيس الراحل أنور السادات في منزله، عاد بعد سنوات ليُغضب الساداتيين أيضًا، عندما قدّم فيلمه «حد السيف» من إنتاج عام 1986، وشاركته البطولة الراقصة نجوى فؤاد. كان الفيلم يرصد التحولات الاجتماعية التى أفرزتها سياسات الرئيس الراحل، وخصوصًا الانفتاح الاقتصادي، وهى السياسات التى أدت إلى إفقار الكثير من المصريين وازدياد ثراء آخرين، في ذلك الوقت كان مصطلح «القطط السمان» منتشرًا في المجتمع.
اهتم محمود مرسى بتقديم أعمال سينمائية ذات قيمة وشخصيات جديدة ومختلفة ومؤثرة جعلت ظهوره في السينما قليلًا في فترة السبعينيات والثمانينيات، مقارنة بغزارة الإنتاج في هذه الفترة، وذلك لرفضه لسيناريوهات عديدة بسبب سطحيتها من وجهة نظره، فلم يقم بتكرار تجسيد ذات الشخصيات، ما يفسر قلة الأعمال التى قدمها على مدى تاريخه الفني، فقد كان يختار الأفلام التى يعمل بها، والأدوار التى كان يؤديها بعناية فائقة، بحيث تقدم في كل مرة جديدا للمشاهد أو تحمل رسالة ما؛ ورغم أنه قام بأداء شخصية الزوج المخدوع في فيلمين هما «الخائنة» من إنتاج عام 1965، وإخراج كمال الشيخ، والثانى هو «زوجتى والكلب» والذى تحدثنا عنه، والمصنف من أفضل مائة فيلم في السينما المصرية خلال القرن الماضي، إلا أنه كان مُدركًا للاختلافات الجوهرية بين كلتا الشخصيتين حتى وإن تشابهت في الظاهر.
قدم محمود مرسى في «الخائنة» شخصية المحامى أحمد سلام الذى يشغل العمل حيزا كبيرا من حياته فيهمل زوجته الشابة الجميلة، ثم يقع تحت يده مصادفة دليل خيانتها فيتمزق بين إحساسه بالألم والمهانة، أما «الريس مرسي» في «زوجتى والكلب» فقد كانت شخصية أكثر تعقيدًا وتحمل أبعادًا متعددة، فالريس مرسى عامل في فنار تزوج حديثًا من فتاة جميلة ويضطر لتركها شهورًا من أجل العمل وهو يبدو عليه قلق واضطراب تجاه زوجته وحينما يعود إلى عمله يحكى لزميله الشاب الذى يعانى من الكبت الجنسى عن مغامراته قبل الزواج، وكيف كان يقوم بخداع أصدقائه وخيانتهم مع زوجاتهم، وحينما يرسل هذا الشاب برسالة إلى زوجته تهاجمه الهواجس والظنون التى تعذبه وتزيد من اضطرابه وهلعه ويتخيل زوجته وصديقه وهما يقومان بخيانته مثلما كان يفعل بأصدقائه.