تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
في مملكة الحرف كثر، يخطونه وكأنه ولد للتو كأن لم يكن من ذي قبل، يخرج من ثغر أقلامهم شخوصا منمقين يسيرون على سطور الحياة بأحلامهم وأوجاعهم وأفراحهم، مدادهم عشقهم ل"بنت الضاد" تلك الملكة صاحبة الأبحر الواسعة التي غرق فيها أمهر السباحين عدا من صنع من موهبته طوق نجاة، فلاطف أمواجها وعرف مكنونها والتقط دررها وصنع له تاجا من لآلأها وتدرج في مملكتها حتى بات أميرا في بلاطها ذائع الصيت.
طفل نهل من معين القرآن حتى تشبع بمفرداته وحفظه عن ظهر قلب، وتلاه هناك في الريف في قريته "تلا" بالمنوفية على مسامع البشر والحجر والأشجار، فأنصتوا له.
قبل أن يلملم سنوات عمره ويغادر إلى المدينة وضع في صندوق الزمان رسالته:"ولدت هنا كلماتنا.. ولدت هنا في الليل يا عود الذرة.. يا نجمة مسجونة في خيط ماء يا ثدي أم لم يعد فيه لبن.. يا أيها الطفل الذي ما زال عند العاشرة لكن عيناه تجولتا كثيرا في الزمن".
انتقل مع أسرته ومع حلمه إلى المدينة فتعثرت قدماه في إحدى المظاهرات ليدخل السجن شهرا ينقش فيه على متون الزمان تجربة القيد كطائر كان يحلق في فضاء رحب وقيدت أوابده فخرج يهجو المدينة:
«الدجى يحضن أسوار المدينة.. وسحابات رزينة خرقتها مئذنة ورياح واهنة ورذاذ.. وبقايا من شتاء..وتلاشى الصمت في وقع حوافر.. وترامى الصوت من تلّ لآخر في المقطّم.. وبدا في الظلمة الدكناء فارس يتقدّم.. وبدا في البرج حارس وجهة في المشغل الراقص أقتم متجهّم.
«سارق النار» الذي تمعن في تفاصيل «مدن الآخرين» وتحدث بلغاتهم وقدم نفسه تعريفا: «الشعر رفيقي» أبى أن يقتفي أثر الأولين ويكتفي بما قيل لكن النكسة جمحت جواده وخلفت في نفسه انكسارا كبقية أبناء جيله الحالمين، فبحث عن سماء أخرى لأنه وإن أحاط بحرفه الحزن إلا أنه لم يكن قط شاعرا عدميا بل كان يثور على أصفاد الحزن ويُشعل الرغبة في ذاته ليعبر لشطآن الحب والحياة.
أطل «حجازي» على مدينته الحزينة ورثى ناصر وكأنه يرثي حلمه قبل أن يشيعه إلى مثواه الأخير: «كنتُ في قلعةٍ من قلاع المدينة ملقى سجينا..كنت أكتب مظلمة.. وأراقب موكبك الذهبى.. فتأخذنى نشوة وأمزِّق مَظلمتى.. ثم أكتب فيك قصيدةْ.. آه يا سيّدى!.. كم عطشنا إلى زمن يأخذ القلب.. قلنا لك اصنع كما تشتهى.. وأعد للمدينة لؤلؤة العدل.. لؤلؤة المستحيل الفريدةْ».
أستاذ السوربون لم يتخل عن اللحن القديم بل صنع آلته الشعرية من وتري الشعر قديمه وحديثه، فحافظ على الشكل القديم عندما أراد أن ينتقل من مرحلة التصوير إلى مرحلة الغناء، وكأن لجأ إلى الشكل التقليدي ليغني فالغناء يتطلب نفسا طويلا ليحتفظ بوحدة البيت ووحدة الإيقاع وبدا ذلك جليا في قصيدته «بغداد والموت»: «وأزّ في نهاية السرداب باب.. وشدت العيون نحوه.. كأنها حراب..صدى خطى، أفسد وقعها الكلال..القلب دق.. النسر حط في دمشق.. عدنان طير لا ينال..من قاع حفرتي أغني يا أوائل النهار.. أحلم كالبذور في الثرى بعيد الاخضرار».
حجازي معين ما أن نهلت منه إلا وحادثتك روحك على الاستزادة فطعم الحرف مختلف وحدود الكلمات فضفاضة، وكلماته موزعة بين البحور وإن رسى على بحر «الرجز» فلا قدماه تسقط في النثر ولا تتعثر في تعقيدات الفصحى.. ويبقى عنه الكثير لم يحكى.