ككل الأشياء الجميلة التي تفتحت أعيننا عليها، حينما كانت السعادة توزع مجانا على الفقراء والأغنياء قبل الاحتكار وقبل أن يفتح الحزن حوانيته في كل مكان.
كنا نقضي طيلة اليوم في ملعب كرة القدم، كان تجمع يضم كل القرية مع كل مباراة وفوز لفريق القرية تتعالى الصيحات.
كنت أشاهد عم محمد المقدم وكان تاجرا مشهورا بولعه لحب كرة القدم وتشجيعه للمواهب ومعروف بتحليله الذي لا يضاهيه فيه أشهر الخبراء.
كان حينما يعجبه لاعب أو يحرز ابن من أبناء القرية هدفا يضع يده في جلبابه ويخرج نقود يقذفه على قدمه.
انفعالاته كانت مميزة بين الثناء والنقد، كان ما يفعله مباراة أخرى خارج المباراة، لا أعرف بالضبط متى توقف عم محمد عن شغفه أو متى أطلق الحكم صافرته ليعلن انتهاء مباراة السعادة.
أصبحت الأهداف بلا هتاف وانشغل الجماهير بمتطلبات الحياة وتوارت تحليلات عم محمد، ربما حدث ذلك بعد وفاة ابنه الأكبر جمال الذي كان لاعبا ماهرا يمثل لنا امتداد للأب.. وقرر فجأة الخروج من ملعب الحياة ومشاهدة المباراة من مكان آخر.. مات جمال وماتت معه أشياء كثيرة وبقيت السيرة تروى في الجلسات.
بعد أعوام طويلة جاء هشام سعيد حفيد العم محمد ليوقظ الحلم من جديد، تبناه جده وطرق كل الأبواب ليعيد حلمه السابق للملاعب، ربما ليقول للأيام: "لسه الأماني ممكنة".. وربما هي محاولة أخيرة ليرضي شغفه بالساحرة المستديرة.
هشام لم يخيب ظن جده فتدرب وتمكن من الالتحاق بنادي الداخلية، وهو يقطع الآن مسافات في ملعب الحياة بين ما كان وما يحلم به جده وبين مستقبل يهواه.. وربما فتح هشام الباب أمام أقرانه ممن يحلمون بإحراز هدف في مرمى الحياة بعد سنوات من الفرص الضائعة يقضونها في ملاعب فرعية بالقرى بعيدا عن وهج الكاميرات.
لاعب الداخلية الشاب حلم قرية بأكملها سكتت أصواتها في المدرجات لسنوات وعادوا ومعهم العم محمد لتشجيع اللعبة الحلوة.. فلعلنا نرى حكاية جديدة لنجم خرج يحمل عرق الفلاحين وأحلامهم ليضع عنوانا يُشار إليه بالبنان له ولقريته ولكل صاحب حلم رٌسم تحت الظلال وعلى شواطئ النيل.