في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
51 – سحيم
" رأيتُ الحببيبَ لا يٌملّ حديثه
ولاينفع المشنوء أن يتوعدا "
"المشنوء" في اللغة: الكريه البغيض ولو كان جميلا، أما سحيم عبد بني الحسحاس فهو الشاعر الأسود غليظ الملامح قبيح الوجه، لكن في شعره من القوة والجمال والعمق والصور المبتكرة، ما يتيح له البقاء بعد اندثار ذكر سادته.
يوصف غزل الشاعر المخضرم بالفحش عادة، ويؤخذ عليه الإسراف في العنف والقسوة، وبيته هذا بمثابة الدليل الساطع على رقة لا شبيه لها، وصدق عاطفة متوهجة ترتفع به إلى مقام أولي العزم من عتاة العشاق المعذبين المسكونين بمزيج مرهق من الضعف وقلة الحيلة.
في حضرة الحبيبة، بكل ما تتسم به من عذوبة وحضور متوهج، يتضاءل سحيم ويرق ويلوذ بجلال الصمت ولذة الإصغاء كأنه في قدس الأقداس. لا ضجيج أو تشويش، ولا متسع للادعاء والافتعال والتصنع والزيف والانفعال الكاذب، فهذا كله مما يسهل اكتشافه وفضحه. مثل هذه الرؤية قد تكون استثنائية محدودة الوجود في شعر الذي يعيش على الهامش، ويعذبه الاغتراب لأسباب شتى، اجتماعية وعرقية واقتصادية وثقافية، لكنها تنم عن الجوهر الكامن، ذلك الذي يتعرض للتشويه بفعل عكارات المجتمع الطبقي ذي المعايير المختلة المضطربة، المسئول عن الإبداع المختلف صانع السمعة السيئة والصورة النمطية السلبية.
