تكأكأت عليه الأمراض واستطاع أن يقهرها ويتحمل أشدها إيلامًا، وقد رأيت معاناته مع المرض ببؤبؤ عيني أثناء زيارتي له بحكم الجيرة والصداقة في ( ستوديو جمال سلامة ) قلعة الفن ؛ الذي آثر أن يقيم فيه الآونة الأخيرة من حياته، لذلك تعاظمت دهشتي من أنه لم يقف في وجه " فيروس كورونا " اللعين ليقهره كما قهر صعوبات كثيرة في حياته على مدى مشواره الفني والإنساني، لكنها إرادة الله سبحانه حيث اختار أن يسترد وديعته، لذا نردد: تعدَّدت الأسباب والموت واحد، وكان " كوفيد " سببًا لا أكثر ولا أقل ليغادر عالمنا، ويترك بداخلنا الإحساس المرير بالفقد والشعور بأن أوتار " القيثارة " التي تشجينا بأعذب الموسيقا والألحان الخالدة؛ قد تقطعت وتمزقت وتركت لنا بكل الحُزن والنزف المنفرد أنغام كونشيرتو " لحن الوداع "الحزين، ولكن عزاءنا وما يُثلج صدورنا أن قلعته الفنية باقية؛ فهي منارة لموسيقاه الفريدة والثرية؛ ولتكن هي التراث الخالد الذي سيبقى للأجيال الصاعدة من براعم مصرنا المحروسة.
ويجيء رثاء وزيرة الثقافة المصرية د.إيناس عبد الدايم له شهادة حق واجبة وخير دليل على اقتداره وعبقريته الفنية، بقولها: "ميدان الإبداع العربي فقد فارسًا نبيلًا وعبقرية موسيقية وأيقونة فنية "! ونحن لانجد مبالغة في تلك الكلمات الصادقة الصادرة ممَّن يعرفون قيمة الفن ومدى تأثيره على مسيرة وحياة الإنسان الروحية والنفسية التي تنعكس ـ بالضرورة ـ على تقدم الدول والإنسانية جمعاء.
والحديث يطول عن هذا العملاق الذي رحل بعد رحلة العمر الثرية مذ شهدت مدينة الإسكندرية مولده في العام 1945 وسط عائلة فنية أثرت فيه فنيًا وكانت حافزًا قويًا له حتى أصبح واحدًا من أهم الموسيقيين في مصر والوطن العربي؛ ليتجه في أعوام صباه الأولى لدراسة الموسيقى في "كونسيرفاتوار القاهرة"؛ ومنه انطلق في بعثته صوب منابع الفنون والدراسة الأكاديمية في رحاب الاتحاد السوفيتي؛ ليتم دراسته العليا على يد "خاتشادوريان" وعمالقة التأليف الموسيقي في كونسيرفاتوار موسكو؛ وليعُد إلى مصر عازفًا على آلة الأورج في فرقة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم؛ولعلي أترك المجال ليتحدث الموسيقار"جمال سلامة" عن نفسه ـ بتصرف ـ من نص حديث له بالصحافة المصرية..قال: "عندما عدت من البعثة بدأت حياتى عازف أورج، وكنت أول عازف للأورج في الوطن العربى، وعملت مع السيدة/ أم كلثوم في أغنية " أقبل الليل "، ولو كان عزفى لم يعجبها، كان سينتهى وجود هذه الآلة في الموسيقى العربية إلى الأبد، وكان معروفًا عنها أنها حين تغنى ماحدِّش بيعزف معاها، فكانت الفرقة الموسيقية تعزف قبل غنائها وتتوقف حين تبدأ في الغناء، ولكننى خالفت هذه القاعدة وعزفت وهى تغنى في البروفة، وكان عازف الكونترباص "عظمة" إلى جوارى فقال لى: "بس يا جمال الست تزعل" فتوقفت عن العزف، وفوجئت بها توقف الفرقة، وقالت لي: "سكت ليه ياجمال"، قلتلها: «عظمة بيقوللى حضرتك مابتحبيش حد يعزف معاكى»، فقالت له: "وانت مالك انت قول يا جمال الحاجات الحلوة دي"، وبالفعل تم تسجيل الأغنية للإذاعة وأنا أعزف بالتزامن مع صوت الست وكانت هذه أول مرة ترافق آلة موسيقية صوت كوكب الشرق، ولكنها كانت سببًا في أننى قررت ألا أعزف مع أى مطرب" !
ثم حلِّق بعدها كالفراشة في سماء عالم الموسيقا؛ ليمسك بعصا المايسترو قائدا للفرقة القومية للفنون الشعبية، إلى جانب عضويته بلجنة الموسيقا في المجلس الأعلى للثقافة، ويالها من رحلة كان فيها دائمًا الرائد في مجاله الذي وهبه حياته وأنفاسه حتى الزفير الأخير من أنفاس الحياة.
وكانت ليلة الرحيل هي الليلة التي ــ بالفعل ــ " بكى فيها القمر " كما بكى في العام 1980 مع ألحانه للراحلة"صباح " لأغاني الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، وأيقونته "ساعات ساعات" التي ذاع صيتها وانتشرت في أرجاء الوطن العربي والعالم، إلى جانب إبداعاته في مجموعة من الأغاني الدينية التجديدية التي شدت بها "ياسمين الخيام " في مقدمة مسلسلي "محمد رسول الله"، و"ساعة ولد الهدى"، وهي المجموعة التي تحمل قدرًا كبيرًا من التعبير يختلف عن الغناء الديني التقليدي، كما قام بوضع ألحان العديد من الأفلام والمسلسلات المصرية في حقبة الثمانينيات؛ مثل "مسلسل الحب وأشياء أخرى" وفيلم "حبيبي دائما"، ولنا ألا ننسى أنه قدَّم مع " سميرة سعيد" أشهر أعمالها التى كانت بمثابة خطوات أولى ناجحة في مشوارها الفنى منها "قال جاني بعد يومين"، "مش حتنازل عنك"، و"احكي ياشهرزاد"، وأنتج تعاونه مع ماجدة الرومي أغنيتها الشهيرة "بيروت ست الدنيا" وقصيدة "الجريدة" بكلمات الشاعر نزار قباني، كما عمل مع الفنانة شادية في مجموعة من أشهر أعمالها منها "مصر اليوم في عيد" لتكون لألحانه الطعم والمذاق الخاص المميز والمتفرد بمداعبة الذائقة الجمالية لدى المستمع العربي المتذوق لفن الموسيقى الأصيل مذ وضع لبناته الأولى موسيقار الشعب سيد درويش وامتداده في موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
والحديث يطول عن هذا العملاق، ولا يتسع المجال للوقوف عند كل محطاته الفنية طوال مشوار حياته، لذلك اكتفيت بالإشارة السريعة إلى أهمها؛ وصولا إلى أهم ما يهم الفنان وهو أن يحظى بتكريم بلده تكليلا لعطاء السنين فكرمته وزارة الثقافة في مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في نوفمبر 2020.
ولأنه بتاريخه العريق الحافل بالأصالة الفنية في عالم الموسيقى؛ ولأننا نضعه في مصاف العمالقة الخالدين خلود الدهر؛ آثر ألا يحمل حقائبه ويرحل عن عالمنا إلا في رحاب عظمة أجداده الفراعنة بـ "مستشفى الهرم " وكأننا نشهد تحطُّم قيثارة النغم على صخرة وباء " كورونا "!؛ وتمزق قوس "الربابة"الشجي، وانساب لحن الوداع الحزين ليملأ المقل بدموع الفراق، لعن الله هذا الفيروس الخبيث حرمنا الكثير من القلوب التي أحببناها على مدى تاريخها الفني العريق، يقينا أننا لن ننساهم ماحيينا المبدعون لايرحلون من قلوب عشاقهم مهما مر الزمان! نسأل الله أن يودعهم جنان الخُلد بقدر ماغمرونا به من سعادة وحبور.