قال البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، اليوم الثلاثاء، إننا نحتفل أيها الأحباء في هذا الصباح المبارك بأحد الأعياد السيدية الثابتة التاريخ "٢٤ بشنس"، الموافق ١ يونيو، تذكار دخول السيد المسيح أرض مصر وهذا الاحتفال قديم في الزمن بقدم الكنيسة القبطية ونحتفل به لأنه على هذه الأرض ولدت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وهي واحدة من أقدم كنائس العالم، فكرسي الإسكندرية هو أحد الكراسي الرسولية الأولى في تأسيس المسيحية عبر العالم كله فبعد أورشليم جاءت الإسكندرية وأنطاكية وروما ثم القسطنطينية.
وأضاف، خلال عظة قداس عيد دخول المسيح أرض مصر بكنيسة أبي سرجة، أنه في التاريخ المصري المسيحي نحتفل بهذا العيد وله جوانب كثيرة ونتحدث عن ثلاثة جوانب.
الجانب التاريخي:
هذا الحدث التاريخي وقع بين نقطتين هامتين في التاريخ، النقطة الأولى كانت قبل الحدث بنحو ٧٠٠ عام وهي نبوة إشعياء النبي في أصحاح ١٩ حين قال: "مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ" (إش ١٩: ٢٥) ولكنه قال في تلك النبوة "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا." (إش ١٩: ١٩). فهذا المذبح الذي تأسس في وسط أرض مصر وصار دير السيدة العذراء الشهير بـ"المحرق" في أسيوط، وعمود عند تخومها وهو القديس مار مرقس الرسول لأننا نقول عن الآباء الرسل أنهم أعمدة الكنيسة، وهذا العمود الذي أتي من الحدود الغربية لمصر حيث مسقط رأسه في ليبيا، أتى إلى مصر وبشرها بالإيمان المسيحي، فهذا الحدث (دخول العائلة المقدسة) يقع في التاريخ بين نقطتين، نقطة سابقة بـ٧٠٠ عام وهي نبوة إشعياء النبي، ونقطة لاحقة بعد زيارة العائلة المقدسة بنحو ٥٠ سنة وهي كرازة القديس مار مرقس الرسول، وبهذه الثلاث (النبوة والزيارة والكرازة) تأسست كنيستنا القبطية، وهذا امتياز تنفرد به الكنيسة في كل تاريخ الكنائس المسيحية على مستوى العالم، فلا توجد كنيسة تأسست بهذه الثلاثة النبوة في العهد القديم، وزيارة العائلة المقدسة في بداية العهد الجديد، ثم كرازة القديس مار مرقس في منتصف القرن الأول الميلادي واستشهد عام ٦٨م وهذا هو الجانب التاريخي وهذا فخر وامتياز لكنيستنا وأرضنا وتاريخنا، ونحن نعيش في تاريخ الكنيسة من خلال السنكسار ونقرأ الحدث الثابت في التاريخ ٢٤ بشنس.
الجانب الجغرافي:
هذه الرحلة لم تكن في مكان واحد، فعندما دخلت العائلة المقدسة من الحدود الشرقية ناحية الفرمة ثم الدخول إلى منطقة الدلتا بجوار فرع دمياط ثم فرع رشيد في وسط الدلتا إلى منطقة وادي النطرون إلى منطقة القاهرة القديمة وامتدادًا من المعادي إلى الصعيد في بلاد كثيرة من خلال الطريق البحري أو البري واستقرت في دير المحرق في جبل قسقام نحو ٦ أشهر، هذا هو الجانب الجغرافي وكأن السيد المسيح كان يقصده، ونمى السيد المسيح نحو ثلاث سنوات على أرض مصر ويطوف في بلادها من سيناء إلى الوجه البحري إلى القاهرة ثم إلى الصعيد وكأنه أراد أن يبارك هذه البلاد والطرقات والتراب والنهر والزرع والهواء، وكأنه أراد أن يشمل مصر ببركة خاصة وهذه البركة من خلال مسار العائلة المقدسة ونحن نحتفل بهذا العيد منذ القرن الأول الميلادي ورتبه الآباء من القرون الأولى وفي الزمن الأخير بدأت مصر بكل أجهزتها تهتم بالمسار وتنتبه إلى أهميته وأن هذا المسار يميز مصر كبلاد ووطن وحضارة، والتاريخ بكل هذه المواضع الأثرية وعندما زارت القديسة هيلانة هذه المناطق وبنت كنائس ومواضع مقدسة في محطات الرحلة ونحن اليوم في القرن ٢١ نقدم هذا المسار والدولة بكل أجهزتها وبقيادة السيد الرئيس وكل السادة الوزراء تقوم بإظهار هذا العمل وهذا التاريخ لكل العالم لكي ما يأتي ويتبارك به وتقدم مصر نفسها للعالم من خلال هذا المسار المقدس، وهذا هو الجانب الجغرافي.
الجانب الروحي:
والجانب الروحي يهمنا بصورة خاصة، لأن الجانب التاريخي والجغرافي أمور عامة حدثت في التاريخ، ونحن نعلم أن الله سيد وضابط التاريخ، فكل الأمور تتم من خلال ترتيب الله وهو ضابط الكل، الجانب الروحي الذي يجب أن نستفيد به لنفسنا، هذا الحدث هو هروب من وجه الشر، هروب من هيرودس العنيف الذي قرر في غضب أن يقتل كل الأطفال من عمر سنتين إلى ما دون، ليموت وسطهم الملك المنتظر ملك إسرائيل الذي هو ربنا يسوع المسيح، وكان السيد المسيح يستطيع أن يواجه هذا الشر ولكن الكتاب المقدس قدم لنا هذا الحدث وسجله واحتفظت به الكنيسة لتعلم الإنسان مبدأ من المبادئ الروحية وهو الهروب، "اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ" وهذه إحدى الوصايا، مم نهرب؟
- اهرب من الشر وأهل الشر حيث إن هناك أشخاص سمحوا لأنفسهم أن يكونوا أشرارًا وعاشوا في الشر ونصلي في صلاة الشكر" كل حسد، وكل تجربة، وكل فعل الشيطان، ومؤامرات الناس الأشرار، وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين انزعها عنا" والشر موجود في العالم، اهرب من الشر، والهروب هنا قوة وحكمة واختيار هام للإنسان، اهرب من الشر بكل صوره الظاهر وغير الظاهر، واهرب من الناس الذين يميلون إلى الشرور، لا تقف أمام الشر، اهرب، وهذا ما فعله السيد المسيح والقديس يوسف النجار، الذي نسميه "حارس سر التجسد"، أخذ العائلة المقدسة حسب وصية الملاك "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ" (مت ٢: ١٣). لتصير مصر رمزًا للأمان والسلام والاحتضان.
- اهرب من الخطية بكل أشكالها، والخطية تتسلل إلى الإنسان دون أن يدري، يمكن أن يكون الإنسان سائرًا في مخافة الله والخطية تتسلل إليه، أخطر خطية تصيب الإنسان السائر في طريق الله هي خطية الذات التي تشعر الإنسان أنه الأفضل، وهذه هي الخطية التي أوقعت هيرودس حيث كان يظن أنه لن يموت، اهرب أيها الحبيب من الخطية، الخطايا الذاتية أخطر أنواع الخطايا، لذلك من ترتيبات الكنيسة أنها جعلت سر التوبة والاعتراف ليضبط البوصلة الروحية للإنسان، الخطية تجعل الإنسان يبعد عن مساره الروحي ثم تطرحه خارجًا، والخطية كل قتلاها أقوياء، دائمًا تشغلنا الخطايا الكبيرة لكن الأصعب هي الخطايا الصغيرة، لأن الخطايا الصغيرة تربط الإنسان بخطايا أكبر "لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا." (٢ تي ٣: ٥). لذلك اهرب من الشر كما فعل السيد المسيح واهرب من الخطية بكل صورها، ومن التعاليم الديرية "ليس أفضل بالإنسان من أن يرجع بالملامة على نفسه في كل شيء" بداية التوبة أن يلوم الإنسان نفسه ويعيش حياة جديدة لأن التوبة هي تغيير المسار، اهرب من الشر والخطية.
- اهرب من الغضب حيث إنه لو أقام الغضوب إنسانًا ميتًا فليس مقبولًا أمام الله" غضب هيرودس جعله يقتل كل الأطفال، الغضب اعماه عن نتائج هذا الشر، اهرب من الغضب، الغضب فعل إنساني يمكن أن يوقع بالإنسان في أشياء لا يمكن إصلاحها، أقنع نفسك أن الغضب لا يصنع حلًا ولا يقدم إجابة وعندما تكلم السيد المسيح كنز الفضائل قال: "تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ." (مت ١١: ٢٩). ليكن الإنسان بطيئًا في الغضب... انتبه لحياتك، علم نفسك أن تخرج من الغضب والانفعال.
واختتم البابا العظة قائلا، "الخلاصة يا إخوتي ونحن نحتفل بفرح هذا العيد ونحن في أيام الخمسين المقدسة.. نذكره تاريخيًّا ونشكر الله على هذه النعمة الكبيرة.. نذكره جغرافيًّا ونشكر الله أننا في بلادنا وأننا في أرض مصر..نذكره روحيًّا في حياتنا اليومية، والله اختصنا وأعطانا هذه النعمة أن يتم هذا الحدث على أرض بلادنا ونعيشه ونفرح به ونحن اليوم موجودون في محطة من محطاته المهمة هذا يجعل الإنسان يفكر في مقدار النعمة الكبيرة التي يعطيها الله لنا، نحن اليوم فرحين في هذه الكنيسة المقدسة وهذه المنطقة بكل أديرتها المقدسة والآباء الأساقفة والآباء المطارنة والآباء الكهنة والأمهات الراهبات ووجودنا في هذا المكان وفي هذا العيد مع نيافة الأنبا يوليوس كلنا نفرح، وهذا العيد ثابت ويكون في وسط السنة ويكون سبب فرح ونعمة وبركة لنا كلنا، ويجب أن نذكره من سنة إلى سنة وأن بلادنا تشرفت بهذه النعم العظيم وبوجود السيد المسيح وأمه والقديس يوسف النجار على أرضها، ومن هذا الحدث الجميل حياتنا تتهلل وتفرح بلادنا وأرضنا بوجود المسيح في بلادنا، بلا شك هي بركات متفاضلة في حياتنا كلنا، يباركنا مسيحنا بكل بركة روحية ويعطينا أن نفرح على الدوام".