خلال الأزمة الأخيرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بحملات تضامن غير مسبوقة مع الفلسطينيين تندد بالتصعيد والقصف الإسرائيليين.
ولأول مرة تجذب تلك الحملات مشاهير ونجوم هوليوود الكبار مثل مارك رافالو وفيولا ديفيس والإسرائيلية نتالي بورتمان، فيما غابت للمرة الأولى التصريحات المؤيدة لإسرائيل من قبل نجوم هوليوود، باستثناء تغريدة الإسرائيلية غال غادوت، التي قوبلت بانتقادات لاذعة وقامت لاحقا بمحوها.
وحتى وقت قريب، كان أي تصريح مؤيد للفلسطينيين أو منتقد لإسرائيل يعرض نجوم هوليوود لاستنكار لاذع من معجبيهم وتوبيخ من مسؤولي هوليوود، وأحيانا ما كان يتسبب في دمار سيرتهم المهنية، وذلك لأن إسرائيل، منذ تأسيسها، بنت علاقات وطيدة مع هوليوود ومسؤوليها، الذين كانوا غالبا من اليهود، بغية الترويج لها كدولة ديمقراطية مسالمة ومتحضرة تصارع عالما عربيا متخلفا.
الملحمة الصهيونية في هوليوود
أول ثمرة لتلك العلاقات كانت فيلم "إكسدس" الذي شارك في إنتاجه أبرز شخصيات هوليوود كاتب السيناريوهات، دالتون ترامبو، والمخرج أوتو بريمينغير، والنجم العالمي بول نيومان، وتم تصويره في إسرائيل، ويقدم الفيلم طرحا صهيونيا لتأسيس إسرائيل من خلال سرد قصة باخرة مهاجرين يهود أوروبيين من ضحايا المحرقة، تدعى "إكسدس" ترسو في فلسطين، رغم تصدي البريطانيين لها ويستقر ركابها في مدنها وريفها.
وبعد إعلان الأمم المتحدة عن تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، يهاجمهم العرب بوحشية ويقتلون نساءهم وأطفالهم، فيدافعون عن أنفسهم ببسالة وشجاعة إلى أن ينتصروا عليهم ويؤسسوا دولة إسرائيل.
الفيلم، الذي بات يعرف بملحمة صهيونية، يعتبر أحد أكثر الأفلام نجاحا تجاريا ونقديا في تاريخ هوليوود، وقد ترك أثرا هائلا على الرأي العام الأمريكي، إذ عزز من تأييد الأمريكيين لإسرائيل ودعمهم للصهيونية، وخلق نظرة سلبية تجاه العرب، الذين بدوا كهمج عدائيين يفتقرون إلى التحضر.
لكن ظهور منظمة التحرير الفلسطينية على الساحة العالمية ومطالبتها بحقوق الفلسطينيين بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة عام 1967 أثار اهتمام الإعلام الغربي وتعاطفه، ما وضع إسرائيل في موقف حرج إذ أنها لم تعد ضحية العرب، بل أصبح الفلسطينيون ضحيتها.
وسرعان ما انقلبت الأمور واستعادت إسرائيل هوية الضحية بعد اختطاف حزب "سبتمبر الأسود" الفلسطيني رياضيين إسرائيليين خلال الألعاب الأولمبية عام 1972 وقتلهم خلال عملية إجلائهم، فانقلب الإعلام الغربي على الفلسطينيين، الذين باتوا يطرحون في كل أفلام هوليوود كإرهابيين يختطفون الطائرات ويقتلون اليهود الأبرياء ويغتصبون نساءهم.
ومع ذلك ظهرت آنذاك أول نجمة سينمائية شجاعة تساند الفلسطينيين، وهي البريطانية فانيسا ريدغريف، التي صنعت أول فيلم عن الفلسطينيين وهو "الفلسطيني"، وقد واجهت حملات استنكار وتلقت تهديدات من قبل الحركات الصهيونية وصناع الأفلام في هوليوود وتعرقلت سيرتها المهنية، لكنها لم تستسلم، حتى بعد تفجير عبوة ناسفة أمام قاعة السينما الأمريكية قبل حفل العرض الأول لفيلم "الفلسطيني".
وعندما رشحت ريدغريف عام 1978 لجائزة الأوسكار عن أدائها في فيلم "جوليا" واجهت حملة شرسة ضدها من قبل أعضاء رابطة الدفاع اليهودية، الذين تظاهروا خارج مقر الحفل، ومع ذلك فازت بالجائزة ونددت بهم في خطاب قبول الجائزة، واصفة إياهم بالصهاينة السفاحين.
وقوبل ذلك الوصف بصيحات الاستهجان من قبل الحضور، كما وبخها كاتب السيناريوهات الشهير، بادي تشايفسكي، في ظل تصفيق حار له، قائلا إنه كان عليها أن تشكر الحفل وتخرس وأن تكف عن استغلال حفل جوائز الأوسكار للترويج لأفكارها.
ظهور السينما الفلسطينية
نظرة هوليوود تجاه الفلسطينين صارت تتغير تدريجيا في أواخر التسعينيات بعد عقد اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية واندلاع الانتفاضة الثانية بداية الألفية، التي لقيت تغطية عريضة في الإعلام الغربي، وكشفت عن مأساة الفلسطينيين، فضلا عن ظهور السينما الفلسطينية بفضل أفلام مخرجين كإيليا سليمان ومحمد بكري وهاني أبو أسعد، طرحت لأول مرة الواقع الفلسطيني من منظور فلسطيني وألهمت مخرجين عالميين.
ففي عام 2005 قدم سيد هوليوود ستيفين سبيلبرغ فيلم "ميونيخ" الذي يتمحور حول فريق من الموساد يلاحق أعضاء حزب "سبتمبر الأسود" للانتقام منهم بعد مذبحة ميونيخ، لكنه لم يطرح الفلسطينيين كأشرار، بل كغيرهم من البشر يناضلون من أجل الحرية والكرامة، بينما يقتل الإسرائيليون المذنب والبريء من أجل تحقيق انتقامهم، ما يدفع زعيم فريق الموساد إلى التشكيك بأخلاقية عملياتهم.
ونددت إسرائيل والحركات الصهيونية في الولايات المتحدة بالفيلم وطالبت بمقاطعته، وأكثر ما أغضبها كان قيام سبيلبرغ المعروف بحبه ودعمه لإسرائيل وولائه للصهيونية، بأنسنة شخصية مقاتل فلسطيني ومنحه الفرصة للحديث عن آلامه وحلمه بالعودة الى فلسطين.
وفي عام 2010 صنع المنتج هارفي واينستين والمخرج جوليان شنابل اليهوديان أول فيلم هوليوودي من منظور شخصية فلسطينية وهو "ميرال" المقتبس عن رواية الإعلامية الفلسطينية رولا جبريل، ويوثق أحداث ملجأ فلسطيني أسسته هند الحسيني منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 حتى الانتفاضة الأولى نهاية الثمانينيات من خلال سرد قصة يتيمة تدعى ميرال، تنضم للملجأ في السبعينيات.
وخلافا لـ"ميونيخ"، "ميرال" لم يصمد أمام هجوم القوى الصهيونية في الولايات المتحدة، التي نظمت مظاهرات صاخبة أمام مقر الأمم المتحدة لمنع عرضه الأول هناك، كما رفضت عدة جمعيات في هوليوود، من ضمنها جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية، حضور عرضه هناك.
وفي النهاية فشل الفيلم نقديا وتجاريا، كما أن فيلم النجمة الهوليوودية الإسرائيلية ناتالي بورتمان "رواية حب وظلام" الذي اقتبسته من رواية الكاتب الإسرائيلي اليساري آموس عوز، لاقى أيضا المصير نفسه.
وتدور أحداث الفيلم في فلسطين عام 1947 ويحكي قصة عائلة يهودية أوروبية تجد أمانا وسلاما مع جيرانها العرب في القدس إلى أن تندلع الحرب بين الجهتين بعد تقسيم فلسطين، ورغم انتصار اليهود إلا أن تأسيس إسرائيل لم يحقق لهم الأمن والسعادة.
ولاحقا، رفضت ناتالي بورتمان جائزة إسرائيل، التي منحتها لها الحكومة الاسرائيلية، احتجاجا على تصرفاتها العنصرية، ثم نددت بقانون القومية اليهودية في مقابلة أجريتها معها نهاية عام 2019، واصفة إياه بالعنصري.
ومن المفارقات أن أحد أهم المحفزات لتغيير نهج هوليوود ونظرة نجومها، اليهود وغيرهم، تجاه الفلسطينيين هي مواقع التواصل الاجتماعي، التي كسرت الحواجز الرسمية بين الحقائق والمتلقي، فزعزعت السرد الإسرائيلي السائد في وسائل الإعلام التقليدية مثلما زعزعت السرد العنصري تجاه السود في الولايات المتحدة وأجبرت هوليوود على تعزيز التعددية وتفادي الطرح النمطي للأقليات والمستضعفين في أفلامها.
ولا شك أن ذلك التغيير سوف يؤثر على نظرة الأمريكيين تجاه الفلسطينيين ويساهم في تفهمهم لقضيتهم.