على عكس محتوى بعض المحادثات الهاتفية التي تلقاها زعماء بعض الدول مؤخرا من الرئيس الأمريكي جو بايدن، جاءت المكالمتان الهاتفيتان مع الرئيس عبد الفتاح السيسي تحملان الشكر والثناء على الدور الذي يلعبه الرئيس في أمن واستقرار المنطقة وتسوية أزماتها.
أربعة أيام فصلت بين المحادثتين، وهي مسافة زمنية تعكس الرغبة الأكيدة لدى من أعلن قبل أشهر عدم توقيع شيكات على بياض للرئيس السيسي لتعزيز أسس الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الثلاثين من يونيو، ورفع مستوى التعاون والتنسيق بين البلدين الحليفين لمواجهة جميع التحديات المشتركة في المنطقة.
فحوى المحادثتين كما أوردهما بيان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية السفير بسام راضي يشير إلى أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد أعادت اكتشاف ما طرأ من تغييرات على السياسات المصرية ومنهجها وأسلوب تعاملها مع الأزمات المختلفة سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
إدارة "بايدن" اكتشفت أنها أمام دولة جديدة، أو بالأحرى الجمهورية المصرية الثانية؛ بما تنطوي عليها من معاني التحديث والتجديد لمنهج وأدوات وآليات النظام السياسي المصري؛ بفعل ثورة الثلاثين من يونيو التي لم تكن فقط ضد حكم أم جماعات الإرهاب، وإنما ثورة على كل ما هو نمطي وتقليدي ومتعارف عليه بشأن منهج وأسلوب الدولة المصرية.
صحيح أن الدور المركزي المصري بالنسبة لإقليم الشرق الأوسط، بل والعالم، قديم قدم التاريخ إلا أن الآليات والأدوات المصرية للعب هذا الدور حتى ما قبل ثورة الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣، اتسمت بالنمطية والتقليدية داخل أطر محافظة؛ بيد أنها تبدلت تماما وباتت تتسم بالجرأة والاقتحام والمغامرة المحسوبة إن جاز التعبير، ولم تعد تمضي داخل سياق نمطي محافظ.
استنادا إلى قواعد راسخة وانطلاقا من ثوابت مصرية شكلتها الجغرافيا، وصاغها التاريخ شرعت دولة الثلاثين من يونيو في تحديث منهجها وتطوير أدواتها في إدارة علاقاتها الخارجية وما يحيط بها من أزمات خطوة بخطوة مع ما تحدثه من تغييرات جوهرية على المستوى المحلي بدأت بإعادة صياغة ورسم السياسة الاقتصادية، وبناء الاقتصاد المصري على أُسس حديثة ومغايرة لما كان عليه وهو ما تجسد في ما اسميها ثورة ٣ نوفمبر الاقتصادية، حينما أعلن عن تحرير سعر الصرف.
منذ قامت دولة الثلاثين من يونيو شهدت البلاد عدة تحولات سياسية واقتصادية وأمنية غير مسبوقة، وجميعها عمل على استعادة الدولة الوطنية المدنية بمقوماتها الحديثة، وتخلل ذلك ثورة إدارية وتكنولوجية تمهد الطريق للمستقبل فليس من المتصور بناء حياة سياسية تقوم على التعددية الحقيقية في ظل استمرار شيوع أفكار جماعة إرهابية ديكتاتورية البناء والفكر والتوجه، ظلت تبث سمومها على مدى ثمانية عقود، ذلك أن بقاءها كان يعني استمرار تسميم الحياة السياسية والثقافية المصرية، ناهيك عن استمرار انتشار أفكارها المتطرفة والإرهابية والمهددة لقيم ومفهوم الهوية المصرية.
وقد ساعدت الجماعة على تعزيز عوامل انهيارها كتيار سياسي وفكري بما ارتكبته من جرائم إرهابية ودموية بحق المصريين كافة، وهو ما عزز قدرات أجهزة الأمن المصرية لمكافحة الإرهاب ومحاصرته بدعم شعبي منقطع النظير لعب دورا بارزا في ألا يكون هناك ظهير لعناصر هذه الجماعة وغيرها من التنظيمات الإرهابية المتحالفة معها في كل ربوع مصر وسيناء في القلب منها، وبالطبع ليس من المتصور مباشرة حياة سياسية سليمة تحت وطأة العمليات الإرهابية، وفي مسار متوازن مضت دولة الثلاثين من يونيو تعزز قيم حقوق الإنسان الأساسية التي طالما غابت عن أجندات غالبية منظمات المجتمع المدني والمتمثلة في المسكن الأمن والحياة الكريمة وبرامج الرعاية الصحية والتمكين الاقتصادي للأسر الفقيرة والأكثر فقرا، ناهيك عن المشروع القومي لتطوير القرى المصرية غير المسبوق.
بالتوازي مع ذلك كله مضت الجمهورية الجديدة تعيد بناء أقدم جيوش الأرض على أُسس حديثة، وتعزز قدراته العسكرية بصفقات أسلحة متعددة المصادر.
كل تلك العوامل ساعدت على صياغة سياسية خارجية تقتحم الأزمات بآليات مواجهة حديثة تعززها إستراتيجية تعتمد على المعلومات الدقيقة، والمعالجة العلمية لها على نحو يوفر قدرة على استشراف ردود أفعال الآخر الآنية والمستقبلية؛ وهو منهج ربما فاجأ جميع الأطراف الدولية والإقليمية الفعالة.
الرئيس الأمريكي "جو بايدن" عبر عن وعيه بالجمهورية المصرية الثانية بثنائه على الجهود المصرية في حلحلة الأزمة الليبية وإعلان الهدنة، ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، ووعده بدعم الجهود المصرية لإعادة دمج العراق بمحيطه العربي، واتخاذ كل ما يلزم لضمان أمن مصر المائي بشأن ما يتعلق بأزمة سد النهضة.
بمعنى آخر: يدرك الرئيس الأمريكي أنه إزاء دولة قادرة على الفعل في أزمات المنطقة كافة من العراق شرقا وليبيا غربا وإثيوبيا جنوبا إضافة على الأزمات المرتبطه بالصراع على الغاز بالشرق المتوسط.
"بايدن" جاء إلى مصر بعد أن نجحت الأخيرة في تجاوز كل ضغوطات بلاده بشأن تسليح الجيش المصري عبر صفقات شراء أسلحة من السوق العالمية المفتوحة، بل وتوطين تكنولوجيا تصنيع أحدث المعدات والأسلحة العسكرية دون الاعتماد على الولايات المتحدة.
بمقولة أخرى: جاء سيد البيت الأبيض ليتعاون مع السيد المصري في قصر الاتحادية على أساس الندية والاحترام المتبادل، وهو ما ينعكس بجلاء في حديثه الهادئ عن ملف حقوق الإنسان بمصر، وبدوره أكد الرئيس السيسي التزامه بالانخراط في حوار شفاف حول هذا الملف، ولكن على أرضية مصرية صلبة تتوافق مع قيم وظروف مجتمعنا لا قيم مغايرة تنتمي لمجتمعات أخرى.
مجمل القول: علاقة الشراكة الإستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة لن تكون في قادم الأيام كما كانت قبل عشرين أو ثلاثين أو حتى أربعين عامًا، هي علاقة جديدة تخلو من شبهات التبعية، أساسها الندية والاحترام المتبادل، واستقلال القرار لدى الطرفين.