أنا أخاف من الموت.. هل تشاركني هذا الخوف؟ أحاول أن أجد صيغة تفاهم معه أحيانا.. وأحيانا أضع له طُرق إلهاء ليبتعد عمن أحب..
استوقفتني بالأمس دعوة سائق أتوبيس، تدبرتها كثيرا، كنت أود أن أسأله هل كنت تقصد ما فهمته، كان يرفع يده إلى السماء ويقول: «يا رب البنزين على أد المشوار»، ربما كان يقصدها بمعناها الظاهر، لكني فهمتها بأن تطول الصحة في كل العمر المُقدر له أن يعيشه.
لا أعرف ما هو سبب شعوري وربما شعوركم بالقلق من الحقيقة اللازمة أو ربما المتفق عليها ضمنيا قبل البداية فهي كلاصق الصلاحية مكتوب به تاريخ الانتهاء.
البعض يعتبر الموت تذكرة عبور لمرحلة أخرى من الحياة لكن تبقى غُصة في الحلق أنه يريد أن ينقل معه عائلته وأصدقائه وأشيائه وربما أعدائه حتى وإن لم يكن يُحب رؤيتهم، لكنه يود أن يكون استدعائهم في يده حيثما شاء وأينما أراد.. الفراعنة كانوا يُعدون حقائبهم كاملة لذلك.
لكن لا أُخفي عليك يا صديقي أن ثمة دعاء يقولها المُلقن يُشعرني بالخوف أكثر من الموت إذ يقول: «اللهم أبدله دارا خير من داره وأهل خير من أهله»، أُؤمن على الدار فلا أحد يكره الانتقال لدار أفضل، لكن أصمت عند الأهل فأنا وربما المُلًقًن تحت الثرى هو الآخر يود أن يلتق هناك مع أهله.
أقف عند فوهة القبر وأردد الدعاء لكني فجأة التفت للمُعزين وأردد رسالة فان كوخ لشقيقه ثيو.. ولا أدري من أنا فيهما.
«عزيزى ثيو.. إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إننى أتعفن مللا لولا ريشتى وألوانى هذه، أعُيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم.
كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي، هل هى كذلك في الطبيعة أم أن عينى مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.
في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألوانى أن تظهرها، في حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى "حذاء الفلاح" الذى يرشح بؤسا ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة..
أصرخ وأصرخ حتى يضج الموتى ويطردوني: «للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك».
وأنا أجري خلف الفكرة أسمع أطيط نعل الموت يقفز خلفي.. أركض نحو «جلجامش» أُشاركه البحث عن الخُلود لكنا نُصاب سويا باليأس ندفن معا «أنكيدو» بعد أن انتصر علينا الدود واحتل الجثمان.. نعم فُزنا بالروح.. أخذناها وعدونا بعيدا الخلود خارج «أورك» وخاطبنا الآلهة أن تُبقينا أحياء لنكتب شعرا عن معجزات السماء.. عن الحب.. عن الخير.. عن ما بعد الموت، لكن «سيدوري» يرفض ويضع لنا على لسان «أوتنابشتم»، سيمنحنا الخلود إذا ظللنا لمدة 6 أيام و7 ليالي دون نوم.. احتسينا بعدد الساعات أكواب قهوة وأرهبنا الجفون بالموت.. نثرنا الحروف في كل مكان وكتبنا عن كل شيء وأعدنا قراءة ما قرأناه كل ما يُمكن فعله فعلناه مرات ومرات.. لكنا شُعرنا بالنُعاس فسلمنا أوتناشبتم أقلامنا وسطورنا وأعلنا أننا خسرنا الرهان، لكنا طلبنا منه كوصية أن يمنحنا نفس الأقلام بعد عبور جسر الموت وأن لا يستجيب للشطر الثاني من دعوة المُلقٍن.
وداعًا يا ثيو، "سأغادر نحو الربيع".