تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل عالم عظيم وفارس حقيقي رحل عنا دون أن نرحل عنه، ونحن نلملم عظام شهدائنا في غزة والضفة والقدس أتذكر واحدا من أعظم أساتذتي الدكتور قدري حفني.
في صيف 1978 كنت في بيروت الصمود، بالجامعة العربية، مكتب القائد الشهيد الراحل الفلسطيني صلاح خلف «أبو إياد»، بصحبة المفكر الشيوعي الراحل ميشيل كامل، وكانت القضية الفلسطينية في أوج تألقها واستهدافها، سقوط تل الزعتر، وصمود المقاومة في وجه اجتياح الجنوب 1978، وكنت للتو انضويت لحركة التحرر الفلسطينى فتح، استمرار التدفق من القيادات المصرية إلى المقاومة الفلسطينية، والذى بدأ بالقادة المصريين: فاروق القاضى «أحمد الأزهرى»، رءوف نظمى «محجوب عمر"، ومصطفى الحسينى، استقبلنا أبو إياد في ترحاب حميمى، فوجئت بكتاب على مكتبه كان قد أغلقه وهمّ لاستقبالنا، عنوان الكتاب: «دراسة في الشخصية الإسرائيلية: الاشكينازيم، الطبعة الأولى: مركز بحوث الشرق الأوسط ـ جامعة عين شمس. 1975»، لاحظ الرجل أننى أمعنت النظر إلى الكتاب، أمسك بالكتاب شاخصًا إلى صورة للشهيد كمال عدوان قائلًا: رغم أن كمال كان أديبًا إلا أنه كان مولعًا بالقراءة في علم النفس، وهو الذى عرفنى على كتابات د.قدرى حفنى، وأضاف: لعل هذا الرجل هو من أكثر من أفادنا بكتاباته عن الشخصية الإسرائيلية حتى أننى كنت أدرس هذا الكتاب للمقاتلين، شعرت بفخر خاص وهو يقول قدرى حفنى، أضاف لوعينا النضالى أبعادًا جديدة. لم يكن أبوإياد الوحيد الذى تحدث عن د.قدرى حفنى، بل سمعت من الشهيد ماجد أبوشرار: «قدرى حفنى عالم من خلف خط النار يعلمنا الكثير".
كان قدرى حفنى توأم الراحل رءوف نظمى «محجوب عمر»، وكم امتدت سهراتنا مع محجوب لنستمع معه إلى سيرته النضالية، وأن فقط قدرى حفنى هو من ساعده وسانده في اتخاذ قراره بالانتماء للمقاومة. وبعد أن انتهى الاجتياح الإسرائيلى لبيروت رحلت إلى دمشق، ومنها للدراسة في موسكو، وعرفت أن د. قدرى حفنى ومحجوب عمر والسفير طه الفرنوانى ولطفى الخولى قد أسسوا «اللجنة الوطنية لدعم الانتفاضة الفلسطينية».. كان قدرى حفنى أيقونة مصرية في قلوب المناضلين الفلسطينيين، تجده في حكايات الشعراء محمود درويش ومعين بسيسو، وكتابات الفيلسوف الشهيد من البندقية إلى غصن الزيتون.
عدت للقاهرة بعد إنهاء دراستى في موسكو، وعملت في صحيفة الأهالى لسان حال حزب التجمع، سعدت جدًا، حينما عرفت أن رئيس التحرير الراحل فيليب جلاب، من أصدقاء د.قدرى حفنى، كان أحد أبرز كتاب الصحيفة، جنبًا إلى جنب مع كتاب عظام مثل «خالد محيى الدين ولطفى الخولى ولطفى واكد وأمين هويدى ود. رفعت السعيد وآخرين».
المتنبئ:
منذ 1989 عملت باحثًا في مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، وكنت متخصصًا في «الأقليات» ـ الملل والأعراق ـ وكان د.قدرى حفنى عضوًا في مجلس أمناء المركز مع د. سعد الدين إبراهيم ود.عبدالعزيز حجازى ود.مصطفى الفقى ود. على الدين هلال، واللواء أحمد عبدالحليم ومنير فخرى عبدالنور وآخرين، وكانت تلك المرحلة فرصة أخرى لكى أتعلم من هذا العالم الكبير سيكولوجية الأقليات، وكيفية إدراك «الحرمان النسبى»، وكيف يؤدى إلى مالا يحمد عقباه لدى الشخصية «الأقلياتية»، كل ذلك أتذكره الآن، وأنا أشهد الصراع في سوريا والعراق والعدوان الصهيوني على غزة.
إشعاع ونور:
حصل د.قدرى حفنى على ليسانس آداب، قسم علم النفس من جامعة عين شمس، الماجستير عام 1971، الدكتوراه 1974. له العديد من المؤلفات منها: حول التفسير النفسى للتاريخ، رأى في نشأة علم النفس، الدراسات النفسية بين التشابه والاختلاف، علم النفس الصناعى والصراع الطبقى، تجسيد الوهم، دراسة سيكولوجية للشخصية الإسرائيلية، المراهقة.. هل هى أزمة، دراسة تجريبية لأثر الجمود الإدراكى والجمود الحركى على التعرض للإصابات في الصناعة.
شغل عدة مناصب أكاديمية بجامعات ومعاهد مصر والعالم العربى، وأسس وتولى رئاسة وحدة الدراسات الاستراتيجية بجامعة عين شمس، وعمل مستشارًا لعدة مؤسسات عربية ودولية متخصصة، ومثَّل مصر في الملتقى الأوروبى العربى بطليطلة في إسبانيا، أكتوبر 1994، وشارك في مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991م بجانب مشاركته في العديد من الفعاليات العربية والدولية.
أسس وتولى رئاسة وحدة الدراسات الإسرائيلية بمركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، وأسس وتولى رئاسة وحدة البحوث النفسية بالمجلس الأعلى للسكان وتنظيم الأسرة 1972-1977، وعمل مستشارًا لمنظمة اليونيسيف وبالمجلس الأعلى للشباب والرياضة بدولة البحرين 1977-1979، وعضو لجنة علم النفس والتربية، المجلس الأعلى للثقافة والفنون، 1981 – 2000، شارك في إدارة بحث «رؤى الصراع»، الذى أجرته جامعة نيويورك، 1981 – 1982، ممثل مصر في لجنة إعداد وتخطيط البحوث الاجتماعية - منظمة الصحة العالمية - جنيف – 1983، عضو رابطة الإخصائيين النفسيين المصرية، عضو التحالف المصرى للشفافية ومكافحة الفساد 2008، كما حصل على جائزة الدولة التشجيعية في علم النفس 1972 ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة زيور للعلوم النفسية، مركز الدراسات النفسية والنفسية-الجسدية، لبنان، 2004، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، 2000. كما أصدر المركز القومى لثقافة الطفل كتيبًا تكريمًا له بعنوان د. قدرى حفنى ضيفًا على الطفولة، في ديسمبر 1992م.
الفارس:
كنت دائمًا أتلمس ريح مضاربه، أزوره، أقرأ له، أتزود من معارفه وخبراته، قدرى حفنى مثل الحجر الكريم كلما سقط عليه ضوء عكس شعاعًا مختلفًا عن الآخر، عالم، مفكر، مناضل، مقاتل، رجل سلام، فارس وإنسان ومواطن.
طبت حيا وميتا يا عم قدري لن أنساك حتى نلتقي في عالم أكثر محبة ونور وحرية.