تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
احتفل الأساقفة الكاثوليك، أمس، السبت 22 مايو الجاري، بعشية الصلاة في عيد العنصرة، في كنيسة القديس اسطفانوس في القدس، ودعا البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، الكنيسة بأسرها، إلى أن تتحد في هذه الصلاة من أجل السلام.
وتنشر "البوابة نيوز"، نص عظة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، نقلًا عن الموقع الإلكتروني لبطريركية القدس للاتين، والتي جاء فيها:
"ها نحن مرة أخرى، في عشية عيد العنصرة، نصلي ونسأل هبة الروح القدس للكنيسة بأسرها، ولأرضنا المقدسة. ولكن مرة أخرى، كما في الماضي، نحن هنا، لنصلي أيضًا من أجل السلام والعدل وتوقف العنف. في الواقع، ليست هذه المرة الأولى التي نجد أنفسنا فيها، على وجه التحديد في مناسبة عشية عيد العنصرة، نصلي ونتشفع من أجل إنهاء الحرب في أرضنا. إننا نتحد قبل كل شيء في الصلاة من أجل عائلات الذين قتلوا في الأيام الأخيرة، ومن أجل الذين فقدوا بيوتهم، أو بقَوْا وحدهم ومن دون أي سند في حياتهم. لنصل من أجل جماعتنا المسيحية الصغيرة في غزة، التي عصفت بها هذه الموجة الجديدة من الحرب، بعد حروب كثيرة عرفتها من قبل، ونصلي أيضًا من أجل جميع السكان الذين أُخضِعوا للمذلة منذ سنوات، وحُرموا الحرية والكرامة والحقوق الأساسية. ربما جلب الوقف الحالي للأعمال العدائية بعض الصفاء لعائلاتنا، لكنه بالتأكيد لم يحل المشكلات التي هي أصل هذا العنف.
وبناءً على دعوة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان؛ تتحد الكنيسة الكاثوليكية بكاملةا، اليوم الأحد 23 مايو 2021، في هذه الصلاة الجماعية معنا، الكنيسة الأم في القدس. نشكر الأب الأقدس لاهتمامه المستمر لكنيستنا وأرضنا والشعوب التي تسكنها. منذ اللحظات الأولى لحبريته، لم يكُفَّ البابا قط عن طلب السلام للأرض المقدسة، فصلى واتخذ المبادرات وكرَّر النداءات. طلبُه للسلام هو أيضًا طلبُنا. ومعه ومع الكنيسة الجامعة، نصلي هنا، اليوم، أولًا وقبل كل شيء، من أجل توبتنا وارتداد قلوبنا، حتى نؤمن حقًا أن الروح هو الذي يأتينا بالسلام. أنا أعرف جيدًا، في الواقع، كم هو صعب الإيمان في وضع مثل وضعنا. ونصلي لكي نتمكن معًا من أن نصير بناة سلام وعدل في أرضنا. الكلمة الأولى التي نطق بها يسوع في العلية بعد القيامة كانت "السلام لكم"، ثم أفاض الروح القدس (يوحنا ٢٠: ١٩). لهذا السبب نحن أيضًا هنا، في علية جديدة، لنطلب من يسوع القائم من بين الأموات السلام، أول ثمار الروح.
وفي ليتورجيا الغد، سنقرأ المقطع المعروف من أعمال الرسل، حيث اجتمع أناس من "كل أمة تحت السماء" (أعمال الرسل٢: ٥) كل واحد منهم يسمع في لغته وثقافته وتقاليده، بشرى "أعمال الله العظيمة" (أعمال الرسل ٢: ١١): كانوا مختلفين، لكن متحدين في الفهم المتبادل، وكلهم أجزاء في جسد واحد. إنها أول صورة للكنيسة يقدمها لنا الكتاب المقدس، وفيها نرى بالفعل ما ستكون عليه، منذ الآن وفيما بعد، طبيعة الكنيسة بأكملها، في كل زمان ومكان: ستكون مختلفة في اللغات والتقاليد والثقافات والمواهب، لكن متحدة بالروح حول المسيح القائم من بين الأموات لتشهد في العالم للرجاء والوحدة والسلام. يتحدث هذا المقطع أيضا عنا، نحن كنيسة القدس، الكنيسة الأم، أولى الكنائس.
نحن الآن هنا في القدس، كل واحد بثقافته، ولغته ومواهبه، هنا اليوم جمعنا الروح القدس، روح المسيح القائم من بين الأموات، لنشهد معا لهبة الوحدة والسلام، ولا سيما في وضعنا الممزق بالكراهية والانقسامات الدينية والسياسية. لعلها هذه أول رسالة ودعوة خاصة لكنيسة القدس: أن تكون شاهدة للوحدة والسلام.
يتكلم هذا المقطع أيضًا عن هوية المدينة المقدسة، أورشليم، التي عُرِّفت منذ البداية بأنها "بيت صلاة لجميع الشعوب" (أشعيا ٥٦: ٧). إنها قلب الوحي الإلهي، الحارسة لإرادة الشركة بين الله والإنسان. وحتى اليوم، فهي تجمع في محيطها ديانات وثقافات ولغات وتقاليد مختلفة، وكلها متحدة في البحث عن اللقاء مع الله. كل مؤمن هو مواطن بالروح في القدس، وفيها قلبه. إنها تجمع في ذاتها كل نفوس العالم، ولهذا السبب بالذات فهي منفتحة على العالم بأسره. صوت الأجراس، ونداء المآذن، وصوت البوق، كلها صوت القدس. لحظات صلاة اليهود والمسيحيين والمسلمين هي لحظات صلاتها. وأماكنها المقدسة هي الكنز الذي يحرص عليه بغيرة كل واحد من المؤمنين مهما اختلفوا. جميع سكانها جزء من فسيفساء ملونة، فريدة من نوعها للحياة، حيث يلتقي الجميع ويصطدمون، ولكن حيث كل واحد – ولو على الرغم منه - هو جزء من تصميم كبير، من نسيج طرزه الله نفسه. إنه نسيج دقيق وهش للغاية، ويجب الحفاظ عليه بعناية واهتمام.
لهذا السبب؛ فإن واجب القادة الدينيين والسياسيين هو حماية هذا التراث الفريد بحذر شديد. كل تخصيص، كل تقسيم، كل حركة إقصاء ورفض للآخر، كل شكل من أشكال العنف هو جرح عميق في حياة المدينة وسبب معاناة للجميع، لأننا جميعًا جزء في جسد واحد. ليس من قبيل المصادفة أن هذه الموجة الأخيرة من العنف في الأرض المقدسة انفجرت كلها من هنا، من القدس، كما حدث على بعد أمتار قليلة منا.
الإكراه في القدس، أيًّا كان، لا يمكن أن يأتي بثمر. لقد كررنا ذلك كثيرًا ونكرره اليوم: لقد تم بالفعل كسر التوازن بين شطري المدينة عدة مرات، فكان سببًا في الآلام والإحباط. ليس هذا هو السبيل الذي يجب اتباعه، إن كنا نريد السلام حقًا. القدس ملك للجميع، مسيحيين ويهودًا ومسلمين وإسرائيليين وفلسطينيين. الجميع متساوون في الحقوق والكرامة، جميعهم مواطنون متساوون. أي إقصاء أو إكراه يجرح هوية المدينة، ولا يمكن السكوت عنه أو تجاهله.
يقدم لنا النبي أشعيا، في المقطع الأول الذي قرأناه، صورة رائعة للعمل الذي قام به روح الرب في "غصن يسى"، المرسل من قبل الله. قال النبي: "وَيُوحِي له تَقوَى الرَّبِّ فَلَا يَقضِي بِحَسَبِ رُؤيَةِ عَينَيْهِ وَلَا يَحكُمُ بِحَسَبِ سَمَاعِ أُذُنَيهِ، بَل يَقضِي لَلضُّعَفَاءِ بِالبِرِّ وَيَحكُمُ لِبَائِسِي الأَرضِ بِالِاستِقَامَةِ... وَيَكُونُ البِرُّ حِزَامَ حَقوَيْهِ وَالأَمَانَةُ حِزَامَ خَصرِهِ.... وَيَعلِفُ العِجلُ وَالشِّبلُ مَعًا....لَا يُسِيئُونَ وَلَا يُفسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدسِي لِأَنَّ الأَرضَ تَمتَلِئُ بِمَعرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تَغمُرُ المـِيَاهُ البَحرَ" (أشعيا ١١: ٢-٩). لا نعرف بالضبط إلى من كان يشير أشعيا في هذا المقطع، عندما قال "غصن يسى". رأت الكنيسة فيه صورة المسيح، كما يقترح الإنجيلي لوقا (لوقا ٤: ١٧ وتابع). لكن، هذه أيضًا دعوة كل إنسان قَبِلَ روح الرب. إنه وصفٌ لرسالة كل مؤمن والكنيسة جمعاء. إن هذا المقطع يشكل عنصرًا من عناصر هوية المؤمن: العمل باستمرار من أجل العدل، من أجل احترام الفقراء والمتواضعين، وأن نكون أقوياء في القرار، لا نعيش لكي نظهر، بل لخدمة الرب.
في الأيام الأخيرة، شهدنا أيضًا توترات قوية داخل مدننا، حيث يعيش اليهود الإسرائيليون والفلسطينيون معًا. إنها إشارة مقلقة، تسير في الاتجاه المعاكس لما يقوله النبي أشعيا. هذه الظاهرة تدُلّ على قلق عميق يجب علينا جميعًا أن نوليه المزيد من الاهتمام. على ما يبدو، الطريق ما زالت طويلة أمامنا، لكي يعيش الذئب والحمل والأسد والعجل معًا. نحن بحاجة إلى الروح لينزل على الجميع، حتى يتعرف الجميع على أنفسهم، ويعرفوا أن كل واحد هو جزء من جسد واحد، فتختفي جميع أشكال التمييز، و"تتخذ قرارات عادلة من أجل متواضعي الأرض". أتمنى أن يفتح الروح أعيننا حتى يتم الاعتراف حقًا، في التشريعات، وفي مواقفنا، وفي خياراتنا الشخصية والجماعية، بالطابع المتعدد الأديان والمتعدد الثقافات والهوية في مجتمعنا. يجب أن ندين العنف، حتى العنف الموجود في كلامنا، منذ بعض الوقت الآن، وقد نجهل ذلك. اللغة العدوانية تؤدي حتما إلى العنف الجسدي. يجب علينا العمل مع العديد من الناس، من كل دين، الذين ما زالوا يؤمنون بالمستقبل معًا، وما زالوا ملتزمين به. كان من الجميل أن نرى في الأيام الأخيرة، إلى جانب التوترات والعنف الطائفي، مبادرات صداقة وأخُوّة بين اليهود والفلسطينيين. إنها علامة تعزية تدل على حضور روح الرب بيننا رغم كل شيء.
أكرر هنا ما قلته بالفعل في أماكن أخرى: على الرغم من أنه قد يكون هذا الحديث غير مقبول هذه الأيام، يجب ألا ننمي فينا مشاعر الكراهية أو نسمح بتغذيتها. يجب أن نتأكد من أنه لا أحد يشعر بنفسه مرفوضا، سواء كان يهوديًا أو فلسطينيًا. يجب أن نكون واضحين في التنديد بكل ما يفرق بيننا. لا يمكننا الاكتفاء باجتماعات السلام بين الأديان، معتقدين أنها كافية لحل مشكلة العيش معًا. لكن علينا حقًا أن نعمل اليوم بجد، حتى يتكلَّم الجميع معًا عن اسم الله، والأخُوّة والمشاركة في الحياة، وذلك في مدارسنا، ومؤسساتنا، وفي وسائل الإعلام، وفي السياسة، وفي أماكن العبادة.
قال يسوع لتلاميذه في إنجيل يوحنا،"إذَا سَأَلتُمُونِي شَيئًا بِاسمِي، فَإنِّي أَعمَلُهُ" (يوحنا ١٤: ١٤). وأضاف: "إنَّ سَيِّدَ هَذَا العَالَِم آتٍ وَلَيسَ لَهُ يَدٌ عَلَيَّ" (يوحنا ١٤: ٣٠).
لسنا وحدنا. القائم من بين الأموات حاضر بروحه القدوس بيننا، يعزينا ويؤيدنا.
الخطيئة والموت وانقساماتنا، لن تقدر أن توقف الله الذي يعمل بيننا. "إنك لا تستطيع شيئًا أمامي". لا يقدر الشر أن يكون هو المنتصر، ولو بدا لنا أن الأمر هو كذلك عندما يدمر الشر العلاقات بيننا: التلاميذ الممتلئون بالروح القدس، أرسِلوأ لمتابعة العمل الذي رأوا يسوع يعمله، أي حمل الحياة حيث الموت، والمغفرة حيث الخطيئة.
ونحن مدعوون اليوم، مثل التلاميذ في الإنجيل، إلى التخلي عن مخاوفنا، والخروج من مساكننا المغلقة، لنكون قادرين على أن نبشر ونشهد لحياة الله فينا وفي الجميع، ونبشِّر بالسلام وبوحدة البشرية. لما رأى التلاميذ جراح المسيح القائم من الموت، امتلأوا بالفرح (يوحنا٢٠: ٢٠). ليجعلنا الروح قادرين على قراءة واقعنا بحسب مفهوم الفداء، ويجعل جراحنا مثل جراح يسوع، لا مصدر إحباط ويأس، بل حافزًا للمضي قدمًا لخلق مناسبات فرح ولقاء وتعزية.
لا نيأسْ إذًا، ولا نضعُفْ. لا نُحزِنْ روح الله القدوس الذي وُسِمْنا به. لتَغِبْ عنا كل مرارة وغضب وحقد، ولْتَختَفِ كل المواقف السلبية الأخرى فينا (راجع أفسس ٤: ٣٠-٣١). المحبة وحدها، وهي المرادفة للروح، يمكنها أن تغير قلب الإنسان. لنطلبها لنا، لكنيستنا وللعالم، ولنطلبها أيضًا لأرضنا المقدسة. لنطلبها لحكامنا، ورعاتنا، وللذين يتحملون مسئولية الشعوب والمؤسسات، حتى يقبلوا أن تقودهم محبة الله أكثر من الحسابات البشرية التي، كما نرى في هذه الأيام، لا تستطيع أن تؤدي إلى الحياة.
ليضِئْ لنا الروح القدس، وليجعَلْنا نفهم دعوتنا الشخصية والكنسية، في وضعنا الاجتماعي المجروح والمتعب. وليجعلنا قادرين قبل كل شيء على قبول واقعنا بدون كذب وبدون أوهام. ليضع كلمات العزاء على شفاهنا، وليمنحْنا الشجاعة للدفاع عن العدل دون مساومة مع الحقيقة. وليجعلنا قادرين على المغفرة.
لننظر أخيرًا إلى مريم العذراء، أمنا، وأم الكنيسة التي تحتضن، مثل كل أم، جميع أبنائها وتجمعهم. لتشفع بنا سيدة فلسطين، شفيعة أبرشيتنا وملكة السلام، أمام الله العليّ حتى تبقى جماعتنا الكنسية أذرُعُها مفتوحة وقلبها مرحِّبًا بكل إنسان. "اسهري على وطنك الأرضي، واشمليه بحماية خاصة، وبددي عنه ظلام الضلال، حيث أشرقت شمس العدل الأبدي".