تكشف وتيرة الأحداث المتسارعة فى ملف الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، أن ثمة قواعد جديدة للعبة فرضتها الدولة المصرية على جميع الأطراف.
اتصال الرئيس الأمريكى جو بايدن بالرئيس عبدالفتاح السيسى وتثمينه الجهود المصرية لوقف إطلاق النار، وتأكيده على تطلع بلاده لتعزيز العلاقات الثنائية لمواجهة التحديات المشتركة فى المنطقة؛ أحد الشواهد على تلك القواعد التى مكنت مصر من الحصول على دعم الأطراف الدولية كافة لمبادرتها بشأن التهدئة والوقف الفورى للعدوان الإسرائيلى على قطاع غزة.
فمنذ اللحظة الأولى لتصاعد أعمال العنف التى بدأت فى المسجد الأقصى وحى الشيخ جراح بمدينة القدس تحركت الوفود الأمنية المصرية نحو غزة وإسرائيل وصاغت مسودة لاتفاق هدنة حازت دعمًا أوروبيًا وأمريكيًا، وعندما فشل مجلس الأمن عبر أربع جلسات متتالية خلال ثمانية أيام فقط فى إصدار بيان يطالب تل أبيب بوقف العدوان اجتمع الرئيس عبد الفتاح السيسى مع نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون بمشاركة العاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى واتفقوا جميعًا على ضرورة الوقف الفورى لإطلاق النار وإنهاء كافة أنواع العنف والتوجه إلى مجلس الأمن ليتحمل مسئوليته إزاء الصراع المتفجر، وليبدأ عملية تفاوض جديدة بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى لحل الصراع وفقًا للقرارات الأممية ذات الصلة.
وبحسب بيان الرئاسة الفرنسية تقدمت فرنسا إلى مجلس الأمن بمشروع قرار يطالب إسرائيل بوقف عدوانها تمت صياغته بالتنسيق مع كل من مصر والأردن؛ وهو المشروع الذى جاء مفاجئًا للإدارة الأمريكية وفق تقارير صحفية خاصة وأن الأخيرة كانت وراء إفشال أربع محاولات متتالية لمجلس الأمن.
ويمكن القول أن هذه التحركات قد شكلت عاملاً ضاغطًا مهمًا على إدارة الرئيس جو بايدن ما دفع الأخير إلى التحدث بلهجة شديدة النبرة مع رئيس الوزراء الإٍسرائيلى بينيامين نتنياهو وطالبه بإنهاء العملية العسكرية معتبرًا أنها قد حققت أهدافها لردع الفصائل الفلسطينية، مؤكددًا أنه لن يستطيع صد المواقف المعارضة للتصعيد العسكرى الإسرائيلى سواء داخل الكونجرس أو المجتمع الدولى.
تفاصيل التحركات المصرية وطبيعة أوراق الضغط التى استخدمتها تجاه طرفى الصراع سواء فى غزة أو تل أبيب أو حتى على بعض الأطراف الدولية الفاعلة قد لا تبدو ظاهرة للعيان وعناوين الأخبار، لكن نتائجها تجسدت فى إعلان غالبية الأطراف الدولية المؤثرة تأييدها وتضامنها مع الجهود المصرية وهو ما يؤشر إلى أن جديدًا قد طرأ على المنهج المصرى فى إدارة هذا الصراع الذى طالما شكل تهديدًا لأمنها القومى لبوابتها الشرقية المطلة على قطاع غزة.
غير أن قواعد اللعبة الجديدة التى فرضتها مصر لم تقتصر فقط على عملية التفاوض من أجل وقف العدوان الإسرائيلى، وإنما امتدت عمليًا إلى مستقبل إدارة هذا الصراع.
كما فاجأ الرئيس السيسى المجتمع الدولى بالخط الأحمر فى سرت والجفرة ليربك حسابات أوروبا والولايات المتحدة التى كانت تسعى لجعل المدينتين تحت وصاية قوات عسكرية أجنبية فاجأ الجميع بإعلانه من باريس إطلاق مبادرة مصرية لإعادة إعمار غزة بمبلغ 500 مليون دولار تذهب هذه المرة لصالح المواطن الفلسطينى بشكل مباشر من خلال قيام الشركات المصرية بإعادة إصلاح وإعمار ما خربه الإحتلال الإسرائيلى.
500 مليون دولار من الخزينة المصرية تمثل استثمارًا سياسيًا جديدًا لصالح أمن واستقرار المواطن الفلسطينى بالدرجة الأولى، ولصالح مقتضيات الأمن القومى المصرى لتكون للدولة المصرية ولأول مرة يد طولى داخل قطاع غزة تحميه من الاعتداءات الإسرائيلية، وتمنع استخدام الأنفاق من داخل غزة لتهديد أمن مصر عبر تهريب الإرهابيين والأسلحة إلى سيناء.
عودة الدولة المصرية بأذرع مختلفة إلى قطاع غزة يعنى أنها ستلعب دورًا أكثر حسمًا لحلحلة الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية وإنهاء الصراعات والانقسامات الداخلية التى تستفيد منها إسرائيل بالدرجة الأولى بإبقاء الوضع على ما هو عليه، بل وتستغلها لطرح خطط وسيناريوهات تبحث عن وطن بديل للفلسطينيين داخل شبه جزيرة سيناء وهو مالم يعد ممكنًا من الناحية العملية، بل وحتى على المستوى النظرى.
على الجانب الآخر سارع مجلس الوزراء الإسرائيلى المصغر مساء الخميس 20 مايو إلى إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد محاولة ربما لتفادى تداعيات الضغوط الإقليمية والدولية والتى قد تتمثل فى إعادة عملية التفاوض مع الفلسطنيين لحل الصراع على أساس دولتين وفق حدود 1967 والمرجعيات الدولية؛ وللتغطية على الخسائر السياسية التى منى بها رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو نتيجة لتصعيد أعمال العنف مع الفلسطنيين بداية من اعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى وحى الشيخ جراح وصولًا إلى العدوان على غزة واستهدافه الأبراج والأحياء السكنية.
خسائر نتنياهو ستضاف إلى أزماته السياسية الداخلية وعلى عكس ما أراد فربما تنعكس الأزمة الأخيرة بالسلب على مستقبله السياسى خاصة مع احتمال عقد انتخابات خامسة على مدار عامين لفشله فى تشكيل الحكومة.
يشار فى هذا السياق إلى أن نتنياهو بات متهمًا بالفشل فى حماية المدن الإسرائيلية من صواريخ غزة، وعمله على تعزيز نفوذ حماس داخل القدس ومناطق أخرى لاسيما وأنه لم يستطع اسكات منصات الصواريخ الفلسطينية ولم ينل من قيادات الصف الأول سواء فى حماس أو باقى الفصائل وهناك أصوات تتهمه بإثارة اضطرابات داخل مدن الخط الأخضر المختلطة التى يسكنها عرب 48 حتى أن الرئيس الإسرائيلى نفسه حذر قبل أيام من أن استمرار أعمال العنف بين المواطنين العرب والإسرائيليين داخل تلك المدن ينذر باشتعال حرب أهلية.
القواعد المصرية الجديدة لإدارة الصراع فى فلسطين قد تختلف فى طبيعتها وأدواتها عن تلك التى فرضت فى معالجة الأزمة الليبية إلا أنهما يأتيان تحت مظلة المعادلة التى صاغها الرئيس عبد الفتاح السيسى بعبارته الشهيرة "نحن نمارس السياسة بشرف فى زمن عز فيه الشرف" وهذا ما يفسر تجاوب وتوافق أطراف المجتمع الدولى الفاعلة مع الرؤية والمعالجة المصرية للأزمتين، وتخليها عن مواقف تقليدية اعتادت اتخاذها فى هذا النوع من الأزمات.
المعادلة المصرية تقوم ببساطة على الحق المشروع لمصر فى الحفاظ على أمنها القومى بامتداداته الجغرافية دون أى أغراض أخرى لاستغلال الطرف الضعيف سياسيًا أو اقتصاديًا والشعب الليبى والفلسطنيون فى غزة يمثلان هذا الطرف لذلك وجدنا المجتمع الدولى يصطف إلى جانب مصر لممارسة ضغوط جادة وحازمة على الأطراف القوية سبب الصراع أو الأزمة وتركيا وإسرائيل يمثلان فى هذه الحالة تلك الأطراف المعتدية.