بعد وقوع النكبة الفلسطينية في العام 1948، تمكن الروائي الفلسطيني إميل حبيبي من الانتقال بين عدة مدن، من "رام الله" حيث يقيم إلى "حيفا" التي احتلتها إسرائيل، حيث ظل منشغلا طوال هذه الفترة بإقناع العرب بالبقاء في منازلهم وعدم تركها، ثم إقناع البقية التي بقت في المناطق العربية المحتلة بالانضمام للحزب الشيوعي الإسرائيلي.
حكى الشاعر والكاتب الفلسطيني غسان زقطان بعض تفاصيل لقاءه الأول بـ"إميل حبيبي"، عندما كان زقطان رئيسا لوفد منظمة التحرير الفلسطينية لمؤتمر مثقفي آسيا في مدينة «عشق آباد» عاصمة الجمهورية السوفياتية تركمانيا عام 1989.
يصف "زقطان" الروائي "حبيبي" بـ"أحد أجمل الرواة الذين يمكن بضربة حظ أن تستمع لهم، كان منجمًا صافيًا من الحكايات، كان كريمًا في حكاياته وبسيطًا وساخرًا".
ويكمل زقطان: من تلك الحكايات كنت أفضل حادثة عودته إلى بيته خلال معارك حيفا عام 48، كان ضمن مجموعات من الشباب العرب واليهود التي نظمها الحزب الشيوعي لحماية بيوت العرب من النهب والسرقة والمصادرة، وهي الحكاية التي رواها في الفيلم الوثائقي «عائد إلى حيفا».
يقول: عدت منهكًا تمامًا، كانت أحياء حيفا تسقط تباعًا، وكانت هناك موجة من النهب والسرقة تتبع سقوط كل حي، كانوا يحتلون البيوت المتروكة أو التي قتل أصحابها، وكانت مهمتنا إقناع العرب بالبقاء وحماية البيوت من النهب، ومن استيلاء المهاجرين اليهود عليها، كان بيتي مضاء واستطعت أن أتبين شبحًا يتجول بين الغرف، كان مهاجرًا يهوديًا في الثلاثينيات، قرر الاستيلاء على البيت، وكان قد وضع حقيبته على مقعد في الصالة، ويتأمل صور العائلة المعلقة على الجدار، جلس قرب حقيبته وجلست قبالته تمامًا، كنت أحدق في عينيه، لم نتبادل الحديث، واصلت التحديق بعينيه حتى منتصف الليل عندما نهض وغادر".
ويعلق "حبيبي" على أحداث تلك الفترة قائلا: "منذ اليوم الأول لاندلاع القتال في فلسطين، جرّبنا أن نقنع الناس بعدم ترك بيوتهم وقراهم ومدنهم، بواسطة النشر والدعاية ومن خلال العمل الفعلي في لجان أحياء. غير أن المؤامرة كانت أكبر منّا بكثير. وأجد أنه من الضروري تحديد دور المسؤولين عن هذه الكارثة. فالإعلام الصهيوني يدعي أن عرب فلسطين تركوا بلادهم بمحض اختيارهم أو تلبية لنداء القيادة القومية الفلسطينية، وقيادة الدول العربية، وهذا ليس صحيحًا. والإعلام الصهيوني يناقض نفسه بنفسه في هذا المجال".
كان إقناع الناس بالبقاء صعبًا للغاية، وذلك لهول ما لاقوه من الفظائع والمذابح التي تم ارتكابها بحق الأهالي الذين بقوا في قبضة المحتل بعد السيطرة على قراهم ومدنهم.
تقدم الشهادات التي أدلى بها الأهالي، الذين نجوا من أهوال النكبة، عددا من المعلومات المرعبة والمخيفة حول حقيقة الأوضاع التي شهدتها القرى آنذاك، ومن هذه الشهادات إفادة ذكرتها سيدة تدعى فاطمة منصور "مواليد العام 1936" من سكان قرية كفر عنان.
وأوضحت "منصور" أن أهل القرية باعوا أملاكهم لإقطاعي لبناني اسمه "فؤاد سعد" بسبب ضائقة مالية إبان الحكم العثماني، الذي فرض على الناس ضرائب كثيرة، لم يستطيعوا بعدها السداد
وشرحت "منصور" أن الإقطاعي اللبناني اشترى الأرض، وترك الأهالي مقيمين بها، ويأخذ نسبة من المحصول، وفي العام 1945 طلب اليهود أن يشتروا الأرض من "سعيد" وعرضوا عليه أموال كثيرة، لكنه فضل أن يبيع أملاك القرية لأهل القرية وبأموال قليلة جدا.
تقول "منصور": بس بعد ما اشتريناها بثلاث سنوات صارت الحرب وطلعنا، لا فرحنا فيها ولا اشي".
يُدلى محمود زيدان، لاجئ من قرية صفصاف، بشهادة حول مغادرة أهله للقرية إبان النكبة، موضحًا أن الكل سلك الطريق الوعر وسط الجبال للنجاة من مذابح العصابات الصهيونية التي قتلت أكثر من 70 شخصا من أهالي القرية، واستمر القتل حتى لم يعرف عددهم، ولم يعرف مصير كثير من الشباب، ولا عدد الشهداء والأسرى وحالة البيوت.
وبعد الهروب، حاول عدد من أهل القرية العودة "لكنّهم فوجئوا بمغادرة من بقي بعد المجزرة، بعد أن رمى الصهاينة جثامينَ الشهداء في العين التي يشرب منها أهلُ القرية، ودمّروا منازلَها ليحُولوا دون إمكان الحياة فيها".
يقول "زيدان": غير أنّ العودة إلى الديار كانت حتميّة، وظلّ الأملُ متوقّدًا في عقول وقلوب الأهالي، وأبناء بلدتنا بشكل خاصّ. فلقد سكن أهلي، مثلهم مثل آلاف اللاجئين، في قرية بنت جبيْل الحدوديّة والقرى المجاورة بانتظار الرجوع إلى بيوتهم، قبل أن يُنقلوا إلى مخيّم عين الحلوة ومخيماتٍ أخرى في أقصى شمال لبنان، وتبدأ الذكرى بالمرور كعقارب الساعة.
ينقل "زيدان" شهادة لجاره " أبو مروان حمد- مواليد عام 1920": أنّ أهالي الصفصاف، وغيرَهم من اللاجئين، ظلّوا، حتى بعد نقلهم إلى عين الحلوة، يدفنون موتاهم في مدافن بنت جبيْل وعلى الحدود كي يسْهلَ عليهم نقلُ رفاتهم أو زيارتُها بعد العودة.