استكمالًا لما ذكرته في المقال السابق، فقد تذكرت أحداثًا عامة وخاصة في شكل أحلام أو هلاوس مرئية تزامنت مع نقص نسبة الأكسجين في الدم. وفى محاولة لمعرفة التفسير العلمى لهذه الظاهرة، وجدت أن علماء النفس ورجال الدين والفلاسفة قد حاولوا إيجاد تفسير لها، وإن كان هناك اختلاف في وجهات النظر. ونعرض في هذا المقال بعضا من هذه الآراء.
أولًا: الخلفية التاريخية والعلمية لتجارب الموت الوشيك
ذكرت وكالة الأنباء DW الالمانية تقريرا كتبه حسن زنيند بتاريخ ١٩ يونيو ٢٠٢٠، بعنوان: ماذا يحدث بعد الوفاة؟ تجارب الموت الوشيك تُحير العلماء، ذكر فيه أنه في عام ١٨٩٢ حدث لعالم الجيولوجيا السويسرى ألبرت هايم عندما كان يتسلق الجبال، تجربة موت وشيك، وقام بعد ذلك بسرد تفاصيلها في كتاب تحت عنوان "ملاحظات بشأن الموت خلال السقوط"، وصف فيه الثوانى التى عاشها وهو يسقط من الجبل، وكيف أنه قد شاهد شريط حياته يبدو أمامه رغم أنه كان على وشك فقدان حياته.
قام هايم بعد ذلك بنشر دراسة وصف فيها ٣٠ حالة من تجارب الموت الوشيك وتم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية وبعد نشرها، كانت مقدمة لمجموعة دراسات الموت الوشيك التى أجريت في منتصف القرن العشرين.
ثانيًا: كتاب الحياة بعد الحياة تأليف ريموند مودي؛ وهو فيلسوف وطبيب أمريكى تخصص في دراسة الحدود الفاصلة بين الحياة والموت. وقام بدراسة ١٥٠ حالة وشملها في كتابه الحياة بعد الحياة (Life after Life) الذى نشره سنة ١٩٧٥.
مودى وصف الأحداث التى تتكرر في حكايات الذين عادوا من الموت (بعد عمل إنعاش لعضلة القلب) في شكل سلسلة من الأحداث تبدأ بسماع ضجيج أو رنين، بعدها ينطلقون في نفق طويل ليجد الشخص نفسه خارج جسده ولكن بإدراك تام لمحيطه. ثم تتطور الأمور لتظهر كائنات أخرى يقول العائدون إنهم أقارب لهم فارقوا الحياة. كما أن هناك من يروى مشاهدته لشريط حياته منذ الولادة، ولكن دون إدراك حقيقى بمفهوم الزمن.
ثالثًا: كتاب أحلام فترة النقاهة؛ آخر ما كتبه أديبنا العالمى نجيب محفوظ، ومانقله عنه الأديب محمد سلماوي. الحلم رقم ٢٠١ من الكتاب، حيث يقول نجيب محفوظ: "يا له من بهو عظيم، يتلألأ نورا ويتألق زخارف وألوانًا، وجدتنى فيه مع إخوتى وأخواتى وأعمامى وأخوالى وأبنائهم وبناتهم، ثم جاء أصدقاء الجمالية وأصدقاء العباسية والحرافيش وراحوا يغنون ويضحكون حتى بحت حناجرهم، ويرقصون حتى كلت أقدامهم، ويتحابون حتى ذابت قلوبهم، والآن جميعهم يرقدون في مقابرهم مخلفين وراءهم صمتا ونذيرا بالنسيان، وسبحان من له الدوام". هل هذا يعنى أن نحيب محفوظ، في أواخر أيامه، كان يرى أقرباءً له ويتسامر معهم ثم يكتشف أنهم قد ماتوا، وأنه قد أخذ عزاءهم بنفسه، أم أنها أحلام فترة النقاهة؟
رابعًا: رأى رجال الدين الإسلامي؛ يقول الله تعالى في سورة لقمان (الآية ٣٤) "وماتدرى نفس ماذا تكسب غدا وماتدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير". صدق الله العظيم.
وفى تقرير منشور في صحيفة الرياض السعودية؛ كتب فهد الأحمد- زاوية حول العالم بتاريخ ٢٦ يونيو ٢٠٠٩- العدد ١٥٠٠٧، تحت عنوان "ولكن لا تبصرون"، عما يراه المحتضر أو كبير السن في آخر أيامه حين تبدأ صحته في التدهور، حيث يبتعد عن الواقع، وقد يرى أقرباءً له متوفين، أو قد يرى أحداثا من الماضى البعيد لم يكن يتذكرها. وحسب الثابت في القرآن والسنة فإن المحتضر يشاهد الملائكة قبل وفاته وقد يتحدث إليهم، مصداقا لقوله تعالى في سورة الواقعة الآية ٨٣-٨٥" فلولا إذا بلغت الحلقوم. وأنتم حينئذ تنظرون. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لاتبصرون). صدق الله العظيم. ومن السنة المشرفة، حديث البراء بن عازب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إِنَّ العبدَ المؤْمن إذا كان في انْقِطَاعٍ من الدُّنْيَا، وإِقْبالٍ من الْآخِرَةِ، نزل إليه من السَّمَاءِ ملائكةٌ بِيضُ الوجُوهِ، كأَنَّ وجوهَهُمُ الشمسُ، معهُمْ كفنٌ من أكْفَانِ الجنَّةِ، وحَنُوطٌ من حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتى يَجْلِسُوا منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجِئُ مَلَكُ المَوْتِ حتى يَجلِسَ عندَ رأسِه فيَقولُ: أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِى إلى مغْفِرةٍ من اللَّهِ ورِضْوَان".
من الواضح من النص القرآنى والحديث أن ذلك يحدث عند الموت "قبض الروح" وليس في نهاية العمر أو عند توقف القلب ثم العودة إلى الحياة أو ما شابه ذلك مما نحن بصدده.
خامسًا: رأى العلم المجرد من الظاهرة؛ وجهة النظر العلمية أن الوعى أو الإدراك هو وظيفة قشرة المخ التى تُمَثِلْ قمة الإبداع في الجسم الإنساني، وأن هذه القشرة بحاجة دائمة إلى الاكسجين والجلوكوز لكى تحافظ على درجة الوعى والإدراك. وهناك احتمال أن يكون نقص الأكسجين فقط أو الجلوكوز فقط أو الاثنين معا (كما يحدث عند توقف القلب المفاجئ) ينتج عنه توقف قشرة المخ والمراكز العليا عن التحكم في المراكز الأدنى (مراكز اللاوعى أو subconscious)، ومنها المراكز التى تختزن فيها الذاكرة، مما يتيح للشخص أن يرى هذه الأحداث والتصورات في وقت يُوجد فيه الجسد تحت توتر استثنائى يستشعر فيه خطر الموت.
بالطبع هذا الرأى لا يتعارض مع رأى الدين الذى سبق عرضه والذى يتناول لحظة الاحتضار، وإن كان الموضوع ما زال بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتحليل.