الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

«سلاطين الغلابة».. حكايات المهمشين والنهر وما وراء الطبيعة.. الحكمة تقطر من ألسنة الشخصيات.. والمعاناة تجمع واقعهم عبر رحلة ممتعة مع البسطاء

دراويش فى رحاب الإله حابى

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بين الواقع والفانتازيا، والحقيقة والخيال، تتحرك الحكايات التى يضمها كتاب «سلاطين الغلابة» للدكتور صلاح هاشم، وتجدل فيما بينها دراما فلسفية لنماذج إنسانية فذة نبتت من أرض مصر الطيبة، وشخوص عاشوا في مرحلة استثنائية من تاريخ الوطن، وكأن كل منهم سلطان من سلاطين الغلابة.

وفيما يزهو على ١٦ حكاية تناول الكاتب بأسلوب سلس بسيط، قصص بكر، وولج إلى مناطق غير مطروقة، وشخصيات من طين الأرض وملح البحر، مستخدما دلالات ذات مغز، ودمج بين الواقع الحالى وجدل التاريخ، حيث يتصدى الكتاب لمحاولات إثيوبيا الاستحواذ على مياه النيل، مؤكدا أن النيل ليس مجرى مائى يمتد في ربوع الوطن، وإنما شريان يمتد من الرأس حتى أخمص القدمين رسم بشكل أساسى خصائص الشخصية المصرية، كما شكل طموحاته وحدد معالم مستقبله، وتمحورت حوله عبر التاريخ، ولسان حاله يقول بلغة صعيدية، "صاحى من الصبح بدري.. والنيل يسابق خطايا.. يفيض يِغِرق جزاير.. يهبط أموت في حشايا".
بين دفتى الكتاب، الذى صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثمة خيط رفيع يجمع بين الحكايات جميعها، يبدأ من منبتها إلى منتهاها، ومن نشأتها إلى مبتغاها، وثمة مستويات عدة للتلقى يمكن الاتكاء عليها، فالحكمة تقطر من ألسنة الشخصيات، والمعاناة تجمع واقعهم، ونهر النيل «لوكيشن» تدور فيه الأحداث، بينما نهاياتهم مختلفة تليق بكل شخصية منهم.
في الكتاب لم يكن نهر النيل مجرد خيط رفيع يجمع بين الحكايات، وإنما كائن حي، يؤثر ويتأثر، يغير ويتغير، ولكنه يلعب دور البطولة دائما، وفى كل قصة نجد مدخلا مختلفا يكشف أهمية النيل في حياة الأشخاص، ودوره وتأثيره، وفلسفة الأشخاص في التعامل معه، فهناك من قدسه وعبده وهناك من تزوجه وطلقه، وطوال الوقت يتعامل الأشخاص مع النيل باعتباره كائنا حيا، يضحك ويحزن، يفيض وينحسر، يفرح ويغضب.
جاءت حكايات الكتاب مهمومة بمناقشة قضايا الفقر، التعليم، الموت، كما اهتم بها مؤلفها، باعتباره معني بهذه القضايا، وفيما يلى سنتعرض لما وراء عدد من حكايات الكتاب، التي حرصنا أن تكون متباينة فيما بينها، وإن كان من الأجدى والأجدر بهذه الحكايا أن يتم تحويلها إلى عمل درامى فيما بعد لتلقى المشاهدة اللائقة بدلا من بعض الأعمال التى يتم تقديمها على الشاشة الصغيرة فلا تزيد المشاهد إلا اغترابا عن واقعه، فشخصيات هذا الكتاب من طين هذا الوطن وتعبر عنه وعن هويته وآماله في غد أفضل.

رجل أخلص للنهر فأخلص له كل شيء فيه
النيـل يـا ولـدي كائن يتحـدى العجـز.. مكـان يتحـدى المـوت والمـرض.. رغم أن المؤامـرة عليه لا تنتهي.. الحيـاة لا تسـكن فقط ماءه الــذي يجري في عــروق البشـر، ولا في الكائنات التي تسكنه.. وإنمـا تسـكن الحيـاة حتى في الرمـال التي تطـل بوجههـا الصبـوح، على جانبيـه كل صبـاحٍ.. بهذه الكلمات البسيطة نجح "الحاج بلاش" في أن يلخص علاقته بنهر النيل، استطاع أن يرسم صورة لعلاقة الإنسان المصري بـ"الإله حابي"، جاء صوت "الحاج بلاش"، امتداد لصوت الفلاح المصري في الحضارة المصرية القديمة، عندما كان يخاطبه النيل قائلا: "أعطني أرضك وجهدك.. أعطك مياهي".. ومن ثم فقـد كان الفلاح يحـرث الأرض بالنهار ويسـقيها بالليــل. وكأن العمــل بالأرض والفلاحة "صلاة"، يقضيها الفلاح للنهر في كل صبـاح ومساء..!
أدرك "الحاج بلاش" ما وراء النهر، وآمن به كما آمن المصري القديم بالنيل، اعتبره قبلته التي يحج إليها ويناجي الإله في بقعته المقدسة ليستجيب ويسمع نداءه الضعيف.. عــاش "بلاش" حياتــه محبا للبشـر وكانت علاقته بالسماء خاصة جدا.
وكما اعتبر الفلاح القديم النيــل ابنــا للإله "رع"، وأعد له أنشـودة مقدسـة، قائلا: "إنه النيـل الـذي يـروى البراري.. مخلوق الإلـه رع، هـو الذي يسقى الصحاري، إنـه حبيـب "جـب" مديـر آلهـة الحصاد، إنه سيد الأسماك، وصانــع الشعير، وخالق القمح، إذا هبط صارت الأرض كلها فــزع وحـزن، وإذا فــاض باتــت الأرض كلها في احتفال وسرور".. كان "الحاج بلاش" على يقـين بأن رمال النيل كمائه شافية، وكان يقول دائما: إن في جزيرتنا بقعة من الجنة، تلتقي فيها الشمس مع النيل ستة وعشرين يوما في السنة، طوبى لمن شهد اللقاء، طوبى للبسطاء الذين جعل الله شفاءهم في حضرة المحبين"، وفي هذا المكان الذي اعتاد "الحاج بلاش" أن يدفن فيه نفسه ليبرأ من أسقامه، فاضت روحه إلى بارئها، وبنى الوافدون على مدفنه قبة ولونوها باللون الأخضر، وكتبــوا عليها هنا "مقــام الحاج بلاش. رجل أخلص للنهـر فأخلص له كل شيء فيه".. وانهالوا على الحفر التي كانوا يزرعون فيها أنفسهم للاستشفاء مثله ليستبدلوا أجسادهم المريضة ببعض الأشجار المثمرة.

سأموت حين تكف زينب عن الحكي!
لم يكن عم «غتاتة»، سوى واحد من أبناء النهر، عاش في واديه الخصب وذاق حلاوة طميه، وقتما كان يتدفق من الجنوب دون سد، لم يتأقلم عم غتاتة مع الواقع الجديد الذى صنعه السد العالي، وكان يعتبره ماردا حبس عن البسطاء ماء النهر، كما لم يستسغ ما فعله بدخول الكهرباء كل منزل، وما نتج عنها من آثار جانبية، وكان يراها تسرق النوم من عين الفلاح، وتعلم المرأة الزينة فتسترخى عضلاتها عن مساعدة زوجها.
لم تكن رؤية عم «غتاتة» رجعية أو تمسكا بأمور بالية قدر ما كانت حنينا للماضى ووفاء لما عاش عليه وخوفا من المجهول الذى يعجز خياله عن استيعابه، ومن هذا المنطلق جاء حب غتاتة لزوجته زينب متدفقا لا حد له يشبه فيضان النيل في عنفوانه، أغناه حبها عن مصداقية أهل القرية، فلم يعد يستمع لهم ولا لنميمتهم، ووصل وفاء غتاتة لحماره أن رفض بيعه بعد إصابته بالسرطان وبتر أذنه، وكان يقول مرضت حمارتى وأنا عجزت فلا هى بحاجة إلى شاب عفى ولا أنا بحاجة إلى حمار عفي، وحينما سئل عن موعد موته قال حينما تكف زينب عن الحكي، فقد كان يراها وطنه وشعبه وملاذه من قسوة الأيام والحياة.

رءوس الأغنياء صلبة كالأحجار والديدان لا تسكن الأحجار
يستعصى الكتاب الذى بين أيدينا على التصنيف، فلا هو مجموعة قصصية ولا هو مقالات نقدية، وإنما هو مقالات حكائية، وفق ما ذكر الكاتب، وهو بذلك يتخطى المفاهيم السائدة حول القوالب الأدبية والفنية المعروفة.
ومن أكثر الأمور التى يمكن أن تلفت نظر القارئ في هذا الكتاب، أنه يتصدى لتقديم عدد كبير من المهن التى انقرضت أو في طريقها إلى الانقراض، وقد تكون شائعة يتردد حولها أحاديث كثيرة آناء الليل وأطراف النهار، إلا أن تناولها بين دفتى الكتاب جاء بعمق شديد وفق زاوية جديدة لتعيدها إلى الوجود مرة أخرى، مثل مهنة «الدوادة»، أو «بائعة الدود».
تتناول هذه الحكاية قصة «ضى العين»، سيدة ليست كغيرها من نساء القرية، تتحدث بغير لهجتهم وتلبس لخلاف ملابسهم، وتمتهن مهنة استخراج الدود من الرأس، تسير في الطرقات تحمل على رأسها سلة صنعت من سعف النخيل، وتتمتع بذكاء حاد، تجيد تسويق حرفتها، تعتمد على الفقراء، وتقنعهم بأن الدود يسكن رءوسهم، وأن ما يصيبهم من صداع ناجم عن معارك الدود المحتدمة بداخلها.
وصلت حكمة هذه السيدة إلى أن تعرف زبونها، وهو الفقير، بل وتؤصل لمفهوم الدود في الرءوس، فهى ترى أن رءوس الأغنياء نظيفة، وأن الدود الذى يكمن في رءوس الفقراء يسكن بطون الأغنياء، فدود الأغنياء يمكن أن نسميه «عفن البطون» ودود الفقراء أطلقت عليه «عفن العقول».

عشت سلطانا وسوف أموت ميتة السلاطين
في هذه الحكاية التى استمد الكاتب منها عنوان كتابه، يقف «خنورة» في خندق الحكماء، يلقى بفلسفته في وجوه من يقابله من البسطاء، متعاليا على العامة والدهماء، بعمله الذى يمكنه من رؤية الأشخاص من فوق، حيث يعمل الرجل جمالا، يركب الجمال ويسير في الطرقات وكأنه سلطان زمانه.
ورغم ضيق ذات اليد إلا أن خنورة كان يتقمص دور السلطان بكل مفرداته، حتى أن جلسته المفضلة كانت أعلى مصطبة بناها من الطين أمام سندية من الخوص ليتبوأ مقعدا عاليا وسط ضيوفه الدائمين من المهمشين والبسطاء الذين يفضلون جلسته وحكاويه وفلسفته على جلسة العمدة ووجهاء القرية، لأنهم يستطيعون أن يتحدثوا ويدلوا بدلوهم كما يحلو لهم، على عكس جلسات الأعيان التى لا يملكون حيالها إلا الصمت استماعا للوجهاء.
تمنى «خنورة» أن يكون سلطانا فاختار سلطنة الصمت، واعتلى عرش «الجمل»، يركب البعير ويمر في شوارع القرية كالملك يقابله البسطاء بالتحايا من كل مكان، لم يره أهل القرية يوما حافى القدمين، كان يقول إن أقدام السلاطين مثل رءوسهم عورة، ولم يكن مهموما بأن ينجب ولدا فقد كان همه الأول أن يموت ميتة السلاطين كما عاش سلطانا متوجا، وكانت الناس تسخر منه.
وفى عيد شم النسيم، شاهد خنورة من فوق جمله العالي، شابا يصارع الغرق، وبدون أن يخلع ملابسه، قفز في النهر محاولا إنقاذ الشاب، مدفوعا بالشهامة، ومتناسيا أنه لا يجيد العوم فأخذه الغريق إلى أعماق النهر، ومات في النيل الذى كان يعشقه، كما تحققت أمنيته ونبوءته، بعد وفاته، فقد كان الغريق هو ابن العمدة، وسار خلف جنازة خنورة جميع الأعيان ووجهاء القرية، كما وقفوا يتلقون العزاء في ابن العمدة وخنورة باعتباره سلطانا من سلاطين الغلابة.

ألم أقل لك أن الأرض لا تموت.. عش أنت واحك للناس عن سالمان الذى قتله فهم خاطئ لحديث نبوى ضعيف
لم يكن سالمان يهوى المغامرة ولا يتذوق الطعام إلا بلسان من يحب، كان يشعر بأنه جاء للدنيا من أجل رسالة لا يعلمها إلا الله، كان لديه يقين أنه لن يصل إلى التعليم الجامعى وأن الله سيقبض روحه صغيرا، ببساطة، كان ابن موت.
كان طفلا ولكنه ينطق بحكمة العجائز، ذهب أقرانه ذات يوم يشكون من عدم تهوية الفصول وازدحامها، ولم ينصفهم مدير المدرسة، وجذبهم سالمان قائلا، لا ترهق نفسك بالحديث إلى مسئول، لم يخلق الله لمسئول أذن، فالإنسان كلما أغلقت أذناه طال لسانه، وحين سئل، متى يسمع المسئولون شكوى الناس قال: عندما يرحلون عن كرسى السلطة.
لم يكن لسالمان إلا أخت وحيدة، مرضت والدتهما ذات يوم، وكان زوج أخته من المتشدقين بالدين فمنعها من زيارة ورعاية والدتها، فلم تطعه، وجاء مهرولا إلى بيت سالمان يطالبها بالعودة، مؤكدًا أن طاعة الزوج واجبة ومقدمة على صلة الرحم، واستدل بحديث ضعيف مفاده قول الرسول لسيدة أطيعى زوجك ولما مات والدها قال الرسول لقد دخل الجنة بطاعتك لزوجك، وهم الزوج بجذب زوجته من شعرها، فتصدى له سالمان مؤكدا أنه زوجه أخته ولم يملكها له أو يتنازل له عنها، فقام المهووس بالدين بطعن سالمان بخنجر في صدره، فسقط على رجل والدته، وقال: ألم أقل لك أن الأرض لا تموت.. احك للناس عن سالمان الذى قتله فهم خاطئ لحديث نبوى ضعيف، فقلت له وماذا عن دنيانا التى حلمنا بها، قال سالمان وهو يلفظ النفس الأخير: عش انت.. وحين نلتقى احك لى عنها.

أنا لست صائدا للثعابين.. أنا منقذهم!
كثيرون يسمعون عن «الحاوي» الذى يستخرج الثعابين من الجحور والبيوت، قليلون من اقتربوا منه، وفى هذه الحكاية، يكشف المؤلف بعض أسرار الشيخ «رفاعة» صائد العقارب والثعابين، ومنقذ القرية من حروبها الشعواء التى تشنها على القرية في شهر أمشير، حيث تهب رياح الخماسين، محملة بأنواع غريبة من العقارب، لا تنتهى دون ضحايا.
تحظى شخصية الحاوى بالكثير من الرهبة والهيبة، لدى الأطفال، لاعتقادهم أن جسده معبأ بالعقارب والثعابين، ويزيد من غموضه هيئته الخارجية والتى غالبا ما تأتى في شكل رجل صامت يحمل على رأسه عمامة مختلفة عن سائر عمائم أهل القرية، وغالبا ما تكون أكبر وأكثر قتامة عن غيرها ويلبسها الحاوى صيفا وشتاء.
يدخل «رفاعة» بيوت أهل القرية، يطلق صفارته الشهيرة، يتمتم بصوت خفيض بكلمات لا يفمهما أحد، وتبادله الثعابين نفس الصافرة، ينادى عليها «تعالى ببركة سيدك الرفاعى الكبير»، يقترب منه الثعبان فيمسكه من رأسه ويطوف به على أهل المنزل، يضعه في جرابه، وكأن الثعابين تبحث عن الأمان ولو كان في جراب حاوي.
كان رفاعة يدرك قيمة التعليم، وكلما سأله أحد ماذا ورثت عن أبيك يقول «الحرف»، وبه تتحرر العقول من الجهل، وتتحرر الشعوب من قيد العبودية، وبالحرف تتقدم الأمم وبدونه تظل رهينة الفقر والمرض.
لم يكن رفاعة يخشى من إفشاء أسرار صنعته، كان يقول إننى لا أصيد الثعابين وإنما أنقذهم من العقارب، فالأخيرة أشبه بأغنياء القرية، تأتى غريبة وأحيانا متطفلة، تقطن مساكن البسطاء، وحين تجوع تأكل أقرب شيء إليها، لا عهد لها ولا أمان، والعقارب كائنات لا عاطفة لها، ولا تعرف حياة الأسرة، وهى الكائن الوحيد الذى أول طعامه أمه، وأول طعام الأم بعد الحمل الذكر.

حامل المسك وساكب العطر وأول من يقرأ الفاتحة للأموات وآخر من يأخذهم في حضنه من البشر!
«الموتى لا يعايرون خدامهم ولا ينكرون محاسنهم، وهم على يقين من أنهم لن يعودوا إلى الحياة مرة أخرى، وربما إن عرضت عليهم العودة رفضوا».. هكذا كانت قناعة «عبد له» الذى قرر طواعية أن يعمل خادما للموتى وكاتما لأسرارهم.
ورغم أن مهنته كانت منبوذة من أهالى قريته إلا أنه كان يعتز بها، مؤكدا أنه الميت الحى أو الحى الميت، وأنه لا يربطه بدنيانا شيء سوى رائحة النهر، مشيرا إلى أن الناس تهابه لأنه يجسد لهم شبح الموت الذى يحرمهم من لذة الحياة، وأن وجوده في أى مكان يفسده، وحينما زوجوه فقد زفوا ابنتهم إلى الموت.
يرى «اللحاد»، أنهم لا يخافون منه وإنما من أفاعيلهم، لأنه أول من يرى بشائر الآخرة على المتوفى، ولذا لم يكن له صديق أو خليل، وكان أحرص الناس على الدنيا وأبخلهم، ومع ذلك كان أكرم الناس مع الموتى، وأوصى أن يكتب على قبره «مات عبد له ولكن الموت لا يموت».

ويل لكم إذا جعلتم الدين كالطعام؛ وجبة شهية على كل موائد الحديث، ثم تنفضون عنها جـوعى أو مختلفون
لم يكن "بشارة" تاجر الغلال المسيحي، مجرد شخص دفع حياته ثمنا للتطرف الديني، فقد تناول المؤلف حكايته ليلقي الضوء على فلسفته في الحياة والدين وينقل تجربته في مواجهة التعصب لأفكار معينة وما أحوج المجتمع في هذه الفترة أن يتحلى بالحب في مواجهة الكراهية وأن يتسلح بالإنسانية في مواجهة الانحياز لأفكاره وأن يتبنى المشاركة بدلا من الانزواء.
أورد المؤلف أفكار "بشارة" التقدمية، في سياق دراماتيكي خلاب، جلب عليه الغيرة والانتقام من المتعصبين للأديان بشكل عام، فلم ترق نبرة التسامح التي تبناها "بشارة" للذين رفعوا شعار "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، من أبناء الدين الإسلامي والمسيحي على حد سواء، دون أن يعملوا عقلهم الذي منحهم الله لهم.
كان "بشارة" يحمل نظرة كلية للأمور تختلف عن التشدد أو تصنيف البشر على أساس الدين؛ ورفع شعارة الحب قائلا: أرسل الله الأنبياء بالتسامح فقال المسيح "الله محبة" وقال محمد "لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا"، إذن فكلنا عبيد الله والحب هو طريقنا جميعا للوصـول إلى الله؛ مهما اختلفت طرائق العبادة، وتسببت له هذه الأفكار في الكثير من المتاعب والاتهامات التي كان أهونها "الخرف" وهو ما دفعه إلى اعتزال الناس، وجلب عليه الكثير من الأحزان، ولكنه لم يصمت ولم يتهيب الموقف بعدما رفض جميع المتشددين أفكاره وشكك غلاة المسيحية في عقيدته وشكك المتشددون من الإسلام في نيته، وقال لهم: ربما يكون الخرف قد أصابني كما تزعمون؛ لكنكم بـلا شك لستم وكلاء الله على الأرض، ولستم أوصياء على عبيده.. لا تجعلوا أفكاركم تمزق الجسد الواحد؛ فما جمعـه بكلمة لا تفرقه جيوش البشر.
يقص الراوي العليم أن بشارة لم يكن يعنيه مكان دفنه بعد وفاته، خاصة أن الأمور تطورت إلى رفض دفنه في مقابر القرية حال وفاته، فأبدى "بشارة" لا مبالاة لهذا الأمر، وكأنه يعرف أن ما يجده أمر طبيعي مثل كل الأنبياء الذين دفعوا أثمانا باهظة في سبيل رسالتهم التي جاءوا الأرض ليقدموها للناس، وبعدها بفترة سقط "بشارة" صريع ضربة عفية من أحد المتشددين، ليرتاح من حماقات البشر ويدخل في غيوبة طويلة دامت عدة أشهر وهو فاقد للوعي قبل أن تصحو القرية على اختفاء جثته، وبعد أسبوع من بحث الصيادين في أعماق النيل الذي كان يطل عليه كوخ "بشارة"، إذا بهم يجدون شاله الأبيض والمسبحة معلقون على جذع أحد الأشجار في قاع البحر لتتحقق مقولته "سوف أحيا داخل كل إنسان فيكم.. ويل لكم إذا جعلتم الدين كالطعام؛ وجبة شهية على كل موائد الحديث، ثم تنفضون عنها جـوعى أو مختلفون..!!