الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ذاكرة الاشمئزاز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سبعون عامًا ونحن نقرع الأبواب الصلدة، لعلها تفتح عن بصيص من الأمل، خمسون عامًا ونحن نقيم في السرادقات أكثر مما ننام ونحن نحتضن أطفالنا، خمسون عامًا نسينا فيها الموسيقى الرومانطيقية، سقطت من ذاكرتنا الأغاني المليئة بالورود، والخالية من روائح الفَقْدِ والحماس الأعمى، حتى السينما يا خلق فشلت في تعليمنا فنون القُبل غير هذه التي دائما ما توضع على جبين الراحلين!
سبعون عامًا وبيوتنا تتناقص، طوبة.. جدارً.. غرفة.. شخصًا، سبعون عامًا ونحن محبوسون في فعل الماضي الناقص "كان"، لا نعرف من الضمائر غير هذا الفعل، فترانا دائما نتحدث هكذا:
- كانت فلسطين بقعة من بقاع الجنة حتى وطأتها الأقدام البربرية، أو نقول مثلا: "كانت فلسطين مسرى النبي"، أو "كان جدنا يحمل مفاتيح القدس"، أو "كان معنا فلان أمس، لكنه استشهد هذا الصباح"، أو "كان لنا أبناء عمومة"، ولا نعرف من عبارات الحديث عن المستقبل سوى: "ستكون فلسطين حرة".
سبعون عامًا ونحن نسمع العالم يتحدث عن شخص هبط فوق سطح القمر، وأن أمريكا رفعت علمها هناك- ربما لهذا السبب هو مظلم الآن- نسمع الكثير من المذهلات، لكنها لم تذهلنا، بل إنها لم تشغلنا أبدا، فنحن مشغولون يا سادة بلمْلَمَةِ الحَصَى للنبال، والحجارة للأطفال كي يحُولوا بين المدرعة التي يقودها أعمى وبين غرف نومنا.
سبعون عامًا ضاعت من أعمارنا في طوابير الحواجز والمعابر والصليب الأحمر الدولي، وفي انتظار مقعد خال في أي من منظماتكم الموقرة مع رفع عَلَمِنا الطيب بين أعلامكم.
سبعون عامًا ونحن نطالب الأغبياء بالكف عن قطع أشجار الزيتون، ربما تحتاجون أصغر فرع منها لترفعوه طالبين السلام! نعم، فسبحان المعز المذل، مغير الأحوال!
سبعون عامًا وذاكرتنا لا تحمل سوى الاشمئزاز، الاشمئزاز من أفعالكم التي تترفع عنها الضواري إلا إذا جاعت. بالحق قولوا لي: بطونكم مليئة بلحمنا، متخمون بالرفاهية أنتم، آمنون بسلاحكم الرهيب، خزائنكم مليئة بعملات العالم الخائف والضعيف أمام الابتزاز لماذا إذن كل هذه الشهوة.. شهوة القتل والإبادة؟! هل الأرض.. أرضنا هي الدافع لديكم؟ الأرض لم تكن يوما لكم، قذفت بكم السفن الجهنمية إلى شواطئنا في يوم غائم ومثير للكآبة، من أين أتيتم بيقينكم المزعوم بأن أرضنا أرضكم؟!
لا تقولوا الغرب ارتضى ذلك، ولا تقولوا باركه العرب، حدثونا نحن، لا أب لنا ولا واصيًا، هكذا تعلمنا من دروس الخذلان والهزائم والسلام الذي أجبر الضحية على أن تمنح قاتلها ابتسامة قبل أن تصمت إلى الأبد.
تعلمنا أن "لا بر إلا ساعداك" علمنا إياها "درويش" طبعا تعرفونه، وأعرف أنا أيضا كم أزعجكم حيا ومنفيا وميتا.
سبعون عامًا يلقوننا في المدارس أن السحب بيضاء، ونحن نضحك سرا متهمين واضعي المناهج بعمى الألوان.. ولم لا ونحن لم نرها يوما بيضاء؟! فدخان الحرائق المنبعث من بيوتنا ومساجدنا لم ينقطع يوما فاستحال اللون الأبيض للسحب– إذا كان لونها أبيض حقا- إلى أسود كريه، ومن يومها وهي كذلك ربما لتشهد أمام الله على جرائمكم.
سبعون عامًا تحت الحصار، والعالم يكتفي بمشاهدتنا في التليفزيونات ولا يحرك سوى مؤشر المحطة ليتخلص من إحساسِهِ بالمسئولية بفاصل فكاهي أو إعلاني راقص.
سبعون عامًا وأنتم تحترفون صناعة الصراع، فمن الصراع على الحاضر إلى الصراع على الماضي إلى الصراعين معا.
نخاطبكم بالمنطق فتردون بالخرافة، نتكلم معكم عن المستقبل القادم فتردون من الماضي البعيد، أرهقنا اللغة يا سادة الكراهية ونحن نحاول أن نُفْهِمَكُم أن أحلامكم هي نفسها كوابيسنا، وأن بقاءكم يتطلب إبادتنا في حين أن بقاءنا لا يستلزم أبدا إبادتكم، فبإمكانكم العودة إلى دياركم التي أتيتم منها.
سبعون عامًا ونحن نقول لكم إن هذه الأرض شرسة، وإن صلواتها من أجل الحرية لا مكان فيها لفرض الركوع.