ما يجري في حيّ الشّيخ جرّاح بالقدس اليوم استمرار لسياسة التهجير الممنهجة لـقادة الاحتلال الذين يسابقون الريح لحسم الحرب الدائرة لصالحهم بغرض الاستيلاء على المزيد من الأرض بعد سرقتها من سكّانها الأصليّين- المقدسيين- وإفراغها منهم وطمس هوية الحيّ والبلدات القديمة.
قصة حيّ الشيخ جرّاح هي قصة صمود فلسطينيّ تمتدّ لأكثر من 40 عاماً، منذ أن بدأت بـ 28 عائلة فلسطينيّة، أصبحوا يُشكلون اليوم 550 فردا، يواجهون الآن خطر التهجير من بيوتهم في أي لحظة مع توقع صدور قرارات الإخلاء من المحاكم الإسرائيلية.
ولكن قصة الشيخ جراح هي أيضا قصة مدينة مقدسيّة ترضخ تحت الاحتلال منذ نكسة 67، وتسعى الألاعيب الاستيطانية إلى تقليص الوجود الفلسطيني فيها وسط صمت دولي وعربي مطبق حتى تحول الصراع إلى قضايا فرديّة يناضل كل شخص فيها بأدوات معدومة من أجل إثبات حقه في بيته وأرضه المسلوبة بعد أن أصبح الشعار المرفوع "كل واحد ينزع شوكته بيده"!
وبالعودة إلى التاريخ، نجد أن حيّ الشيخ جرّاح أخذ إسمه من طبيب صلاح الدين الأيوبي، الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، القائد الكردي، الذي تحول إلى رمز لأجيال عربية متعاقبة منذ نحو 900 عام. وقد أنشئ حيّ الشيخ جرّاح بالقدس عام 1956 بموجب اتفاقية وقعت بين وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والحكومة الأردنية، وفي حينه استوعب 28 عائلة فلسطينية هُجّرت من أراضيها المحتلة عام 1948 ولم تستكمل الحكومة الأردنية تسجيل الملكيات لهم. وبعد هزيمة 67، بدأ الإحتلال في التوسع والتوغل في أحياء القدس الشرقية وعانى حيّ الشّيخ جرّاح من استيطان اليهود في الحيّ، وتهجير بعض العائلات الفلسطينيّة وطردهم من منازلهم. وبدأت الجمعيات الاستيطانية على الفور بالبحث عمّا تدعيه "أملاكها" كذبا وبهتانا في شرق القدس. وباستخدام التزوير المعروف عنهم، ادّعى ممثلون عن "الوقف الاشكنازي اليهودي"، و"الوقف السفاردي اليهودي" شراء قطعة الأرض هذه عام 1876 من الإمبراطورية العثمانية، مقابل 16 ألف فرنك. ويُعطي النظام الإسرائيلي أولوية مطلقة لليهودي عندما يتعلق الأمر بـادعاءاته حول ملكية الأرض، دون أن يتضمن ذلك فحصا دقيقا لتلك الادعاءات.
ولم تنفع محاولة المقدسيّين أصحاب الأرض في الدفع لإلغاء الاعتراف بتسجيل الأرض لصالح الوقف اليهوديّ، و استغل الأخير الفرصة وباع الأرض إلى جمعيّات استيطانية مقابل مبلغ زهيد وهو 3 ملايين دولار أميركي. ثم بيعت الأرض مجدّدا لشركة استيطانيّة هذه المرة، باسم "نحلات شمعون ليميتيد". في المقابل، قدّم سليمان درويش حجازي أوراقاً ثبوتيّة تشير إلى أن قطعة الأرض هذه من أملاك عائلته المقدسية، لكن المحكمة الإسرائيلية هذه المرة رفضتها عام 2006، واعتبرت أن الأوراق "مزيفة"!
وتوالت الدعاوي بعد ذلك ضد العائلات الفلسطينية التي تسكن الحيّ لمطالبتها بإخلاء منازلها. فهل بعد هذا .. هناك أمل في المحاكم؟ّ!
قليلون يجيبون بـ "نعم" وهم من يعوّلون ليس على المحاكم تحديدا وإنما على التدخّل الدولي للضّغط على إسرائيل من إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لوقف الاحتلال عن تماديه في إقامة المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المسروقة من أصحابها. أما من يصنعون الأمل حقيقة فهم أصحاب الحق وهؤلاء لا يبدو أنهم بعد تجارب تقارب نصف قرن من الزمان يعوّلون على شيء إلا صمودهم ونضالهم!
olfa@aucegypt.edu