الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

حكايات من زمن الوالى.. العفو زكاة المنتصرين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كاتبان كنت أحب أن أقرأ بنهم تحليلاتهما للتاريخ وحوادثه جمال بدوي وصلاح عيسى لكن تأتي كتابات الكاتب الصحفي عماد الغزالي؛ لتسد فراغا في المكتبة العربية وتشبع نهمنا لقراءة التاريخ بأسلوب أدبي رفيع وشائق يجعلك تستمتع بالعودة للماضي كأنه يفتح بوابات الخيال للقاريء ليعيش تلك الأزمنة ويتنزه في حنايا التاريخ. وهو على قائمة الكتب التي أنصح بها كعتاد وزاد لفترة عزل جديدة قد نقبل عليها مع كورونا اللعين.
في كتابه القيم "حكايات من زمن الوالي" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، يروي الغزالي قصص تاريخ مصر الحديث نقب فيها عن شخوص لم يكونوا في صدارة المشهد أو ذكروا بشكل عابر في كتب التاريخ ليتتبعهم الغزالي بقلمه النابه راويا مصائرهم والملابسات التاريخية التي عايشوها وتعكس الكثير عن الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر في عهد محمد على باشا.
حكايات عديدة عن بوغوص باشا الذي حوله أهل الإسكندرية إلى "باكوس" وسمي به حي شهير شرقها، وحكايات عن "كلوت بك" وحكايات عن رفاعة الطهطاوي، وحكاية الجندي عبد الله الذي تم تجنيده مع زمرة من الفلاحين إجباريا بأبشع الطرق لكي يكون محمد على باشا جيشا مصريا خالصا بعيدا عن الألبان والجراكسة والأتراك،كل هذه القصص كان السبب في الكشف عنها قصة كوشك هانم كما كشف المؤلف في مقدمته، تلك الفتاة التي هربت من الشام إلى مصر بسبب الحروب وسيقت إلى عباس باشا ابن محمد على لكي ترفه عنه لكنه طردها وأواها سليمان باشا الفرنساوي، يتركنا المؤلف في حالة شوق لمعرفة قصتها الكاملة.
تبدأ قصة كوشك هانم حينما أصدر محمد على باشا فرمانا بتهجير بائعات الهوى إلى صعيد مصر وحظر نشاطهن في القاهرة، لتغادر كوشك مع وصيفتها "بمبة" إلى إسنا وهناك تلتقي بالروائي الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير صاحب "مدام بوفاري" الذي سيكتب عنها في يومياته عن رحلته إلى مصر. ومن حكاياتها نعرف الكثير عن أحوال مصر آنذاك.
الأمر المهم في الكتاب أنه يتتبع حياة والي مصر محمد على التي شابها الكثير من الغموض فنعرف مثلا من الكتاب أن محمد على أشاع عن نفسه اليتم لكي يكسب نفسه هالة من العصامية والصلابة وأنه بإرادته العظيمة صعد إلى قمة المجد، ونعرف عن ولعه الشديد بنابليون بونابرت مثله الأعلى عسكريا حتى أنه غير من تاريخ ميلاده الحقيقي ليكون في نفس العام الذي ولد فيه 1769 بدلا من 1770.
موقف محمد على باشا مع الطالب الألباني الذي اعتدى على الشيخ العلامة رفاعة الطهطاوي يبرز جانبا آخر من شخصيته، إذ يروي الغزالي أن الطالب عبد الله وهو ألباني برتبة يوزباشي صفع الشيخ رفاعة الطهطاوي ناظر مدرسة الألسن على وجهه، ويستشف المؤلف عماد الغزالي أن ألبانيه الطالب هي التي دفعته لهذا التصرف الأرعن وأن يتطاول على "ابن الفلاحين" بغض النظر عن مكانته العلمية الرفيعة.
يكشف المؤلف أن القانون في ذاك الوقت كان يقضي بعقوبة تنزيل رتبة الطالب العسكرية وسجنه خمس سنوات، فإذا بمختار بك المدير الأول لمدرسة الألسن يخفف العقوبة ويكتفي بتنزيل الطالب رتبتين وهو ما أغضب محمد على باشا، ودافع مختار بك بأن الطالب من الطلاب النابغين الذين أرسلوا لبعثة فرنسا وأنفقت عليهم الدولة، فكان رد الوالي:" الطالب المخطيء يجب أن يجلد 300 جلدة، ثم يطرد من المدرسة؛ لأن رفاعة بك درب الكثير من الطلبة وعلمهم، واسترضاؤه أكثر ربحا لنا من الانشغال بالأموال التي انفقت على الطالب".
وبموضوعية المؤرخ الحصيف، يؤكد الغزالي أن مواقف الوالي متباينة ففي مواقف مماثلة انحاز الوالي للألبان، وبالطبع يعرف من يطالع سيرة محمد على باشا أنه كان دائم الحرص على مصلحته ومجده الشخصي ومجد أسرته قبل أي شيء، لكن يغفر له أن اهتمامه بالتعليم والصناعة والتخطيط مبهر على كافة المستويات وحقق لمصر نهضة سريعة بعد فترة تدهور في عصر المماليك.
وكم يضع رتوش بضربات الفرشاة على بورتريه منمق، يختتم كتابه بمجموعة من رسائل الباشا التي تعطي صورة عما كان عليه والي مصر، كيف كان يتعامل مع أبنائه وكيف كان يخطط لهم كقادة وجوانب من حبه للنظام الصارم يقول الغزالي: "الوالي كان براجماتيا بدرجة ما، أي أنه كان يتصرف وفق ما تمليه عليه المصلحة والضرورة، حتى لو كان تصرفه مخالفا لقواعد وقوانين سنها بنفسه، أو مضادا للطريقة التي تصرف بها في موقف مشابه".
انتقى عماد الغزالي عددا من الخطابات التي راسل بها محمد على باشا أبناءه في البعثات أو الحملات العسكرية التي أرسلهم إليها، منها نعرف أنه كان حكيما في تعامله مع أبنائه وتوجيههم وإرشادهم ويستخدم تارة أسلوب اللين وتارة أسلوب الشدة والتهديد بالعقاب، لكن السمة الغالبة هي حرصه على التمسك بالقواعد والنظام الصارم الذي يقوم الرجال، ومراسلاته غالبها تحثهم على الالتزام بالدراسة والاجتهاد في تحصيل العلم. في رسالة طريفة يحذر سعيد من بدانته، قائلا: "أنا مشمئز من وزنك، إن في مقدورك أن تتخلص من بدانتك.. إنك لو حضرت إلى الإسكندرية وأنت على هيئتك السابقة فسوف أنفيك في منزل صغير..". ومن بين الخطابات خطاب إلى ابنه إبراهيم باشا بعد الانتصارات التي حققها في الشام وسقوط عكا بعد 6 أشهر من الحصار فكتب إليه يحثه على حسن معالمة والي عكا: "هل هناك سعادة يا بني تفوق عفونا عن أعدائنا، لقد قرأت في بعض الكتب أن العفو هو زكاة المنتصرين، ونحن لن نجد في الانتقام شيئا من المتعة التي نجنيها من العفو، لقد كانت هذه السجية فطرية في أبيك، ومن المعروف أن الفرع يتبع الأصل".