في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
40 – حرقة بنت النعمان
" فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلّب تارات بنا وتصّرف "
تتسم حياة الشاعرة بأحداث شتى مثيرة، كأنها القصة الغرائبية التي يتفنن الخيال المحلق في صياغتها، وتتراوح فصولها بين الصعود والهبوط، الانتصارات والهزائم. جمال حرقة نعمة تتحول إلى نقمة، وبسببه تشتعل الحروب وتحتدم الصراعات وتتداخل التقاليد مع الشهوات لتشكيل المأساة. الاقتراب من الاستقرار يفضي مجددا إلى الاضطراب والقلق، كأنه مكتوب عليها ألا تشبه العاديات التقليديات من النساء.
في بيتها المكثف، الصادق الصادم الموجع، شكوى تلخص جوهر الوجود الإنساني الذي يمثل الاختلاط عنصرا فاعلا في تشكيله، وقرب نهاية العمر تتجلى الخلاصة والحكمة بعد فوات الأوان. هل تكمن الأزمة في "الدنيا" وما تحفل به من تحولات؟، أم أنها تنبع من السلوك البشري والتناقضات التي تنعكس بالضرورة على المسارات والمصائر؟. ما الدنيا إلا ناسها، وخطاب حرقة في هذا السياق مزدوج مركب يطول طرفي المعادلة: الدنيا والناس.
قرب نهاية الرحلة الشاقة مع الحياة، يحل التعب ويترك الانقلاب المزعج آثاره الكارثية المغلّفة بالمرارة. في "أف" ما يجسد اللعنة التي تستدعي الغضب والاستياء والتذمر، وتكشف عن الحصيلة المنطقية للضجر وما يترتب عليه من دوار يدفع إلى الزهد، ويقود إلى الوقوف على عتبات الحكمة.
