في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
39 – الحاجري
" صدودكم وصل وسخطكم رضا
وجوركم عدل وبعدكم قرب "
عذاب الحب عذب، ومرارته شراب ممتع سائغ يرتوي به العاشق ويلتذ. لا مهرب من القدر، ولا رغبة أو تفكير في الهروب منه. الشكوى الكامنة هامسة أقرب إلى العتاب الرقيق، أو ما يشبه العتاب الرقيق، ذلك أن فكرة العتاب نفسها لا تليق بأولي العزم من المحبين الصادقين، أولئك الذين لا تتسع قواميسهم لمفردة كهذه.
ما الصدود إلا فصل من كتاب الوصل، لأنه ليس أصيلا ولا يرادف الهجر والقطيعة، أما "السخط" و"الرضا" فإنهما مترادفان لا صدام بينهما أو تنافر، ويخالفان الشائع المألوف للكلمتين من معنى. منذ متى يفكر المحب الصادق في الظلم والعدل؟، وهل له أن يميز بين البعد والقرب؟. عندما تستوطن الحبيبة أعماق القلب وتستقر في الروح، لا يليق الحديث عن الاقتراب والابتعاد.
ما الشاعر إلا كتلة من الحب الذي تتراجع معه اللغة الموروثة وما تعنيه من دلالات تقليدية، وعند الوصول إلى ذروة كهذه، يبدو منطقيا مبررا أن تندمج الثنائيات المتنافرة في انسجام وتناغم، وتتبخر الثرثرة الشارحة. الأمر لا يحتاج إلى عناء الفهم والإقناع والاتكاء على العقل، والخطاب موجه في المقام الأول إلى القادرين على الإحساس والإدراك.