في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها.
ونقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.34 – بشار بن برد
" إذا أنت لم تشرب مِرارا على القذى
ظمئتَ.. وأيُ الناسِ تصفو مشاربه "
منذ الخطيئة الأولى لآدم وحواء، يُحكم على ملايين الملايين من أبنائهما بالرضوخ للقانون الصارم الغليظ الذي يقدم بشار صياغته المثلى: الموت من فرط الظمأ، أم الري المختلط بالقذى والعكارات؟. الاختيار ليس مطروحا، فهو ترف لا يليق بأبناء الخطاة، والتمرد ليس ممكنا، والحصار خانق محكم مرهق مزعج، لا مهرب منه او فكاك.
الشاعر الضرير الحكيم يرى ما يعجز عنه المبصرون بلا بصيرة، والبناء واثق موجع يمسك بتلابيب القارىء فيتراجع عن هاجس إضاعة الوقت في المناقشة العبثية والجدل العقيم. السفسطائيون وحدهم من يهدرون أعمارهم في إنكار ما لا يمكن إنكاره من حقائق ساطعة يعاينون آثارها الكارثية بلا انقطاع، والكاذب المحترف وحده من يكابر فيزعم أنه يشرب الماء صافيا. يعرف أنه يكذب، وينفرد بنفسه فيقر معترفا منكس الرأس: قدر الإنسان ألا تصفو له حياة أو شراب، وما الحياة إلا الكثير الكثير من الشوائب.
قد يُحتمل الظمأ ساعات، ويُستعان بالعناد فيطول الصبر يوما أو أياما، لكن سياط الجفاف تقود إلى الاستسلام، وينظر المُعذب بالظمأ حوله فيرى أفراد القطيع يشربون بلا غضاضة، فيهمس لنفسه مواسيا: وأي الناس تصفو مشاربه؟.
إنها لعنة الخطيئة التي لا تُغتفر!.