في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
33 – البحتري
" فلا تُتبع الماضي سؤالك لمْ مضى
وعوج على الباقي فسائله لمْ بقى "
في مواجهة موت الأحبة من الأهل والأصدقاء المقربين، يتجاوز الشاعر دائرة الإشادة التقليدية بمناقب الراحلين وخصالهم الحميدة. تحاصره أوجاع الفقد المباغت غير المتوقع، وكل موت هو مباغت غير متوقع، فإذا به يواجه طوفان الزمن عظيم القسوة في تحولاته العاصفة التي لا قِبل لأحد بالتعايش معها أو استيعابها، فضلا عن مواجهتها والتصدي لها. الحاضر الهش يغيب ويتوارى، ذلك أن الانشغال كله بالماضي الذي يموت مع الموتى ولا تُرى أطيافه إلا بالخيال. أما المستقبل، ذلك المصطلح الغائم والسر الغامض المجهول، فإنه في رحم الغيب مستحيل الاختراق، ومن الذي يرى ما لا يُرى؟.
مراوغة مرعبة هي الدنيا، تحترف الخداع والغدر والعبث. لا صدق فيها أو صداقة، ولا متسع لشرف الخصومة. الساذجون الأبرياء وحدهم من يفكرون في طرح الأسئلة، ولا يعانقون راحة اليأس مع الإهمال واللا مبالاة. العاقلون الحكماء أصحاب التجارب والخبرات هم الفائزون، ويعرفون أن الماضي هوة مظلمة موحشة كالقبر الذي لا يُزار، والمستقبل لغز مرهق لا يقوى أحكم الحكماء على معرفة خباياه. الأمل الوحيد في اختراع آلة الزمن، نلهو بها بين الماضي والمستقبل، وليس في وسع الإنسان أن يفعل.
تمام الحكمة في تجاهل الحاضر، الضائع بين زمنين، ولا محصول له إلا الجهل وتراكم الحيرة.