في الأيام الأخيرة من الشهر الكريم دار الجدل مرة أخرى حول تجديد الخطاب الدينى وجاءت المبادرة هذه المرة من شيخ الأزهر الإمام الطيب، ولتقريب الرؤى بين تيارين يطالبان بالتجديد، كان لزاما علينا أن نسأل رائدًا من رواد التنوير المعاصرين لنا، ألا وهو الراحل نصر حامد أبو زيد، الذى يعد بجدارة الامتداد لمدرسة العقل في الإسلام بداية من المعتزلة وابن رشد وإخوان الصفا، مرورا بابن عربى ومحمد عبده وأمين الخولى وغيرهم، وصولا إلى اللحظة الراهنة اذ يؤكد نصر حامد ابو زيد في مقال له بعنوان الاستخدام النفعى للدين منشور في مجلة الديموقراطية يقول فيه (نحن بحاجة إلى «تثوير» فكرى، لا مجرد تجديد، وأقصد بالتثوير تحريك العقول بدءا من سن الطفولة. فقد سيطرت على أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم - حالة من «الركود» طال بها العهد حتى أوشكت أن تتحول إلى «موت»، هذه الظاهرة مشهودة في أفق الحياة العامة، بصرف النظر عن مظاهر حيوية جزئية هنا أو هناك، في الفنون والآداب بصفة خاصة، فستجد أن بؤر الحيوية تلك مثل بقع الضوء التى تكشف المساحات الشاسعة للظلمة. فإذا وصلنا إلى مجال الفكر، فحدث عن اغتراب الفكر وغربة المفكرين، إلا من يحتمى بمظلة سلطة سياسية أو إثنية أو دينية تحوله إلى بوق ينطق بما ينفخ فيه).
ويستطرد ابو زيد قائلا «وتثوير الفكر الذى نحتاجه يتطلب السعى إلى تحريك العقول بالتحدى والدخول إلى المناطق المحرمة، اللا مفكر فيه حسب تعريف محمد أركون، وفتح النقاش حول القضايا. وأهم من ذلك التخلص من ذلك الجدار العازل الذى طال وجوده في ثقافتنا بين (العامة والخاصة)، فتلك الدعوات التى تتردد بين الحين والآخر عن حصر النقاش في بعض القضايا الدينية داخل دائرة أهل العلم، حتى لا تتشوش عقائد العامة أو يصيبها الفساد، دعوات في ظاهرها الرحمة والحق، وفى باطنها السوء والباطل. كيف يمكن في عصر السماوات المفتوحة التى تنقل (العالم) إلى غرف النوم، وفى عصر اكتساح ثورة المعلومات لكل الحدود، أن يطالب البعض بحماية (العامة) من خطر الفكر العلمى في أخطر القضايا التى تمس حياتهم، إنه للأسف منطق الوصاية يتذرع باسم الحماية لممارسة ديكتاتورية فكرية وعقلية لا تقل خطرا عن الديكتاتورية السياسية في مجتمعاتنا».
ويرتبط منهج التجديد بالحاجة إلى التجديد في سياقه التاريخى الاجتماعي، السياسى والفكرى. فالتجديد في أى مجال لا ينبع من رغبة شخصية أو هوى ذاتى عند هذا المفكر أو ذاك، إنه ليس تحليقا في سماوات معرفية، أو بالأحرى عرفانية، منبتة عن أرض الحياة وطينها، وعن عرق الناس وكفاحهم في دروب الحياة الاجتماعية، قد يبدو المفكر محبا للعزلة حريصا على الهدوء والابتعاد عن صخب الحياة، لكنها أوقات التأمل التى لو انسلخت تماما عن نسيج الحياة الحى وتيارها الجارى لصارت سجنا من الأوهام، وقلعة للشياطين العابثة. من هنا يمكن القول إن «التجديد» ليس حالة فكرية طارئة، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التى ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصة.
ويوضح لنا ابو زيد انه ما ليس تجديدا في مجال الفكر فهو «ترديد» وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا من الفكر في شىء، ولا يمت إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو من بعيد. وبما أن قانون الحياة الطبيعية والاجتماعية هو التغير في كل شيء، سواء كان ذلك التغير مدركا وملحوظا أو لم يكن، فإن قانون الفكر هو «التجديد»، ذلك هو قانونه من حيث هو فكر في ذاته. ويصبح «التجديد» مطلبا ملحا كلما سيطر «التقليد»، الذى هو عين «الترديد» والتكرار لما سبق قوله، وساد، إذ في هذه الحالة ينفصل الفكر عن حركة الحياة التى تمضى في حركة تغيرها غير آبهة بعجز الفكر عن متابعتها فضلا عن قيادتها وترشيد اتجاه حركة التغيير فيها.
تنبع الحاجة إلى التجديد من مطلب التغيير، وهذا المطلب الأخير يصبح بدوره ضرورة ملحة حين تتأزم الأوضاع على كل المستويات والأصعدة: الاجتماعي، السياسى، الاقتصادى، والثقافى والفكرى على السواء
يمكن القول إن تعدد أوجه الأزمة يخلق الحاجة إلى التغيير، وأول مظهر من مظاهر التغيير هو الحاجة إلى «التجديد» الفكرى والسياسى والاجتماعي، أى في كل مجالات المعرفة وحقولها في هذا السياق يكتسب التجديد في إطار الفكر الدينى أكثر إلحاحا بسبب أن كل هذه الأزمات والهزائم يتم تفسيرها في الخطاب الدينى بشقيه الرسمى والشعبى تفسيرا دينيا.
وهناك ايضا مبرر معرفى للتجديد يلفت ابو زيد انتباهنا اليه حيث إن مهمته تحقيق عملية «التواصل» الخلاق بين الماضى والحاضر. والمقصود بعملية «التواصل الخلاق» الخروج من أسر «التقليد الأعمى» وإعادة إنتاج الماضى باسم «الأصالة»، وكذلك الخروج من أسوار «التبعية» السياسية والفكرية التامة للغرب باسم «المعاصرة». وليست عملية «التواصل الخلاق» بالضرورة هى محاولة التلفيق بأخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة دون تحليل تاريخى نقدى لكليهما، وهو النهج الذى سيطر بدرجات متفاوتة على المشروع الفكرى النهضوى فأفضى إلى تكريس ثنائية «الغرب» المادى العلمى المتقدم والمفلس روحيا، و«الشرق» الروحى الفنان المتخلف ماديا وعلميا. العودة إلى دراسة «التراث» مجددا، خاصة «التراث الدينى» تستهدف إعادة النظر في كل تلك المسلمات، سعيا لتحرير المشروع النهضوى من تلفيقيته التى انكشف عجزها واضحا من خلال الهزيمة الشاملة.