ترك الكاتب الكبير الراحل جمال الغيطاني، والذي تحل ذكرى ميلاده اليوم الأحد، إرثًا ضخمًا من حكاياته التي تظل ذات قيمة فنية تدل على طريقه الخاص الذي سلكه ليتميز به وسط جيله من العمالقة، خاصة حكاياته عن زمن بعيد ضمته أوراقه.
هو ابن منطقة الجمالية بالقاهرة القديمة، والتي أمضى فيها ثلاثين عامًا تلقى خلالها تعليمه في مدرسة عبدالرحمن كتخدا الابتدائية، ومدرسة الجمالية الابتدائية، وتعليمه الإعدادي في مدرسة محمد على الإعدادية ليحصل على الشهادة عام 1959، والتحق بمدرسة العباسية الثانوية الفنية التي درس بها لثلاث سنوات فن تصميم السجاد الشرقي وصباغة الألوان، وتخرج فيها عام 1962، ليعمل في "المؤسسة العامة للتعاون الإنتاجي" كرسام للسجاد الشرقي، ومُفتشًا على مصانع السجاد في القرى، ما أتاح له زيارة معظم أنحاء مصر. ثم اعتُقِل في أكتوبر 1966 بتهمة الانتماء إلى تنظيم ماركسي سري، وأمضى ستة أشهر في المعتقل تعرض خلالها للتعذيب والحبس الانفرادي، ثُم أطلق سراحه في مارس 1967، ليعمل سكرتيرًا لـ"لجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي" ما أتاح له معايشة العمال والحرفيين، وكل هذا يُثري في تجاربه، ليُفرزها فيما بعد أدبًا.بداية الغيطاني مع الأدب تعود إلى عام 1959، عندما كتب أول قصة قصيرة "نهاية السكير"، ثُم نشر أول قصة في يوليو 1963 هي "زيارة" في مجلة الأديب اللبنانية، وفي نفس الشهر نشر مقالًا حول كتاب مُترجمَ عن القصة السيكولوجية في مجلة "الأدب" التي كان يُحررها الشيخ أمين الخولي، ثُم نشر عشرات القصص القصيرة في الصحف والمجلات المصرية والعربية، ونشر قصتين طويلتين هُما "حكايات موظف كبير جدًا"، و"حكايات موظف صغير جدًا"، وصدر له أول كتاب له عام 1969، هو "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، مُتضمنا خمس قصص قصيرة كتبتها كلها بعد هزيمة 1967، ولاقى الكتاب ترحيبًا من القراء والنقاد، حيث أعتبرها البعض بداية مرحلة مختلفة للقصة المصرية القصيرة.
عندما أنهى الغيطاني قصته القصيرة "المقشرة" في أعقاب نكسة 1967 بأيام قليلة ذهب بها إلى الكاتب الصحفي عبدالفتاح الجمل، والذي كان مسؤولًا عن تحرير ملحق المساء الثقافي، والذي قرأ القصة وقال له: "يا ابن الإيه.. أنت فتحت سكة جديدة في القصة القصيرة"، وقتها كان هناك جيل جديد غاضب يبحث عن طريق آخر يختلف عن الطرق التي سبقته، وكانت قصة الغيطاني غاضبة كصاحبها الذي كان قد خرج من المعتقل السياسي قبل شهور من الهزيمة، وكانت الرقابة تحكم قبضتها الشديدة على كل منافذ الإبداع، ولكن الجمل قام بنشر القصة على الفور، وأخبر الرقيب يومها أن هذا الأديب الشاب وجد مخطوطًا تراثيًا قديمًا يكتب عنه، وفي ذلك الوقت كان كل الكُتّاب يتجهون إلى الكتابة وفق نموذج غربي، على عكس الغيطاني الذي كان يبحث عن هذا الاختلاف والنبرة الخاصة، وهو ما وجده في تلك الأيام في النصوص القديمة غير المطروقة، سواء محاضر المحاكم الشرعية، والملاحم الشعبية، وما كتبه ابن إياس، وألف ليلة وليلة.
وفي رحلة الغيطاني الأدبية محطات مهمة، بداية من مجموعته القصصية "حكاية شاب عاش ألف عام" وحتى روايته "حكايات هائمة"، فهو من جيل حاول تغيير العالم الذي لا يتغير، آمن بأن الذات تختفي لمصلحة القضايا الكبرى، أما في رواية "التجليات" فقد بدأ ظهورًا خافتًا للذات، فلم يستطع الغيطاني وهو يكتب نصًا في رثاء والده، ألا أن يعود إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والإمام الحسين بن على ليكتب عنهما، فدائمًا ما كان التراث والماضي ساحته التي يعرف كل جزء منها.
بدأ الغيطاني مبكرًا كذلك التمرد على هذه "القضايا الكبرى" التي أخفى الذات من أجلها، فكان اطلاعه على الحقائق الكونية والعلوم والفلسفة جعله يخرج من محدودية الرؤية القاصرة إلى الأسئلة الفنية، أسئلة الطفولة الأولى، وفي "حكايات هائمة" تحرر الغيطاني تمامًا من سطوة المفاهيم القديمة عن الكتابة باعتبارها رسالة أو شهادة على الواقع، تختفي فيها الذات لمصلحة الجماعة، والمتعة لمصلحة الفكرة، فكانت الكتابة لديه في هذه الحكايات أقرب إلى مفهوم الخوض في المعنى الفني، فخرجت بشكل يصعب تصنيفه تقليديًا، وتراوح النص بين الشذرات الفلسفية والقصائد الشعرية، وجاءت الأسئلة فيه أسئلته هو الخاصة لا أسئلة الجماعة، وتحرر فيه من أسر الشكل التقليدي وعبوديته، فكانت الكتابة حرة تتداعى فيها الذاكرة سواء كانت الحكايات لها ظل من الواقع أو من الخيال، فهكذا قرأ جمهور الغيطاني عن مراجع داخل العمل ليس لها وجود، وشخصيات لم تولد بعد، واستمتع بنصوص مليئة من الفلسفة ومن التصوف، ومن الشعر ومن الخيال، كما فعل مع النص الخالد "ألف ليلة وليلة" التي حوّلها إلى ليالي الغيطاني، طارحًا أسئلة حول والوجود، والزمان، والموت ليصل بقارئه إلى همّ رئيسي هو الذاكرة.