احتدام الجدل مرة أخرى حول الهوية في الصحف وعلي شبكات التواصل الاجتماعي مؤخرا بمشاركة كبار وصغار.. مرة بمناسبة موكب المومياوات الفرعونية ومرة بسبب شهر رمضان ودائما بمناسبة أو بغير مناسبة في كل لحظة تأزم وطني ثم اليس عجيبا ان تظل نخبة منقسمة حول هويتها الوطنية لأكثر من مائة عام كما هو حال النخبة المصرية؟ ويظل الدفاع عن «خصوصية» الأمة المصرية وتاريخها، استدعاءات لا تزال قائمة حتى هذه اللحظة ولن تتوقف في المدى المنظور، ليستمر الكل، في سذاجة مفرطة، في التناحر من أجل تحديد هوية مصر، ولن يفعلوا في نهاية المطاف سوى مثلما فعل ذلك الذي أخذ وقتا طويلا للتفكير، ثم عرف الماء بالماء.
هوية مصر هي أنها «مصر»، التي كونت أقدم دولة في تاريخ البشرية، وسعت إلى معرفة الله قبل الأديان الإبراهيمية، وكان موجودا بها سبعة أنبياء قبل الإسلام، وعاشت نحو سبعة قرون دولة مسيحية، وظل المسيحيون يشكلون أغلبية سكانها حتى العصر الفاطمي، أي بعد أكثر من قرنين من الفتح الإسلامي، وهي الدولة التي احتفظت بوضع خاص طيلة زمن الخلافة الإسلامية، الأموية والعباسية والعثمانية، وكانت شبه مستقلة عن السلطة المركزية في دمشق وبغداد وإسطنبول، ومن تولوا أمرها تشجعوا في أغلب الأحيان، على التمرد المعلن أو الصامت على السلطة المركزية محاولين أن يستقلوا بها، هكذا فعل أحمد بن طولون وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس، ومحمد على الذي جهز جيشا لمحاربة السلطان العثماني نفسه. لكل هذا، فإن مصر بدت طيلة تاريخها أمة قائمة بذاتها، نشأت على التوالي، طبقات حضارية بعضها فوق بعض، ومن ثم فإن أي محاولة لتفكيك هويتها أو اختزالها في صنف أو لون واحد محكوم عليها بالفشل الذريع،. ولهذا، ليس من قبيل المبالغة أن يقول البعض إن مصر أعطت المسيحية والإسلام من روحها. ويتضح ذلك في خصوصية الكنيسة القبطية والإسلام المصري المعتدل وحتي الازهر الذي أراده الفاطميون منبرا للشيعة جعلة المصريون منبرا للسنة وهكذا فشل وسقط كل من حاولوا اختصار هوية مصر في جانب واحد: فرعونية، كما كان ينادي حفيد أحمد لطفي السيد وأسس حزبا لهذا الغرض قبل ثورة يناير، وبحر متوسطية كما حلم طه حسين، ومن قبله الخديو إسماعيل الذي أراد أن تكون القاهرة مثل باريس حتى في معمارها، أو إسلامية، كما رفعت ما تسمى حركة «الصحوة الإسلامية» التي بدأت في عشرينات القرن العشرين، أو عربية، حسب ما تبنى التيار القومي، ولا سيما الناصرية، التي غلبت هذا الاتجاه على ما عداه. وفي كل هذه الحالات، كان الحضور الأفريقي موجودا، على الأقل بحكم الجغرافيا التي جعلت مصر بوابة القارة السمراء، ومع هذا فإن بعضهم ينظرون إلى التجربة السياسية الإسلامية القديمة (700 مـ ـ 1923) وأوروبا المتقدمة (1948 ـ 2021) في رأسه. ثم تجدهم يدعون أن الفاتح العربي لمصر عمرو بن العاص كان سببا في تخلف مصر!!.. وكأن مصر كانت متقدمة من قبله!! ومن المعلوم أن الهوية المصرية ليست علمانية، والدين كان دائما جزءا منها، وإن لم يكن أبدا مكونها الوحيد ولهذا فإن إحياء الوطنية المصرية والثقافة المرتبطة بها هو السلاح الأهم لمواجهة الهجمة الحالية على الهوية المصرية.
صراعات الهوية لعبت ولاتزال الدور الرئيسى في انهيار دول مثل لبنان والعراق وتفتتهم إلى ولاءات سنية وشيعية وكردية حلت محل الولاء للوطن وارتبطت بالخارج أكثر من ارتباطها بالحكومة المركزية في بغداد وبيروت ونفس السيناريو يدور الآن في دول مثل سوريا وليبيا واليمن وغيرها. صحيح أن التخلي عن الهوية مسألة مستحيلة بل ومرفوضة تماما، لكن من الضروري أن يتخلى الأفراد عن التعصب الأعمى لهوياتهم وخصوصياتهم، وألا يستسلموا لما يسمى «حرب الأفكار» وأن يؤمنوا بتعدد الهويات وتقاطعها، ويتسامحوا مع «الآخر»، ويمتلكوا قدرة فائقة على التفرقة بين التسامح والتساهل، فالأول لازم لنزع أي طاقة عنيفة تحملها الهويات، والثاني غير مطلوب، لأن من لا يحترم ما لديه ليس بوسعه أن يحترم ما لدى الآخرين، ففاقد الشيء لا يعطيه وأخيرا فليس صحيحًا بالمرة أن مصر تابع لأحد، لا في الإقليم ولا خارج الإقليم، مصر تناور الجميع لتحقيق أمنها ومصالحها، في لحظة مضطربة، تعصف بها الريح من كل جانب، وتتحرك فيها الرمال من كل جانب، وليس فيها محاور ثابتة، ولا ولاءات مستمرة، ولا يابس مستقرة.
الحقيقة الوحيدة في هذه الحقبة المضطربة هي: نفسي نفسي، كلٌ يريد النجاة مما يواجهه من مخاطر، وكلٌ يريد الاستفادة مما يصادفه من فرص.