تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
بلغة الفن وأدوات الدراما غير المباشرة فاجأنا أبطال ونجوم مسلسل لعبة نيوتن باقتحام واحدة من أهم قضايانا الفكرية القديمة الجديدة الملحة على المجتمع المصرى خاصة والعربى عامة؛ فبدون أن نشعر -وعبر تسلسل منطقى للأحداث- وجدنا أنفسنا جزءًا رئيسًا من الحبكة الدرامية وندخل فى نقاش حول قضية تجديد الخطاب الدينى؛ نقاش يتجاوز مرحلة مراجعة التراث الفقهى وتنقيته إلى مرحلة ضرورة إعمال العقل لإنتاج فقه جديد يناسب ما طرأ على مجتمعاتنا من تغييرات.
الطلاق الشفهى وما ينتج عنه من مشكلات اجتماعية معقدة هو عقدة الحبكة الدرامية، وبدون اللجوء إلى جمل حوارية مباشرة واعتمادًا على تلقائية تصاعد الأحداث والتطور الذى يطرأ على الشخصيات نجح المخرج تامر محسن وفريقه من المبدعين الذين شاركوا فى الإخراج والتأليف وكتابة السيناريو والحوار محمود عبدالتواب ومها الوزير ووائل فرج ونسرين طلعت فى جعل الجمهور شريكًا فى حوار حول الإشكالية الناتجة عن ازدواجية الاعتراف بالطلاق الشفهى دون توثيقه مع استمرار قانونية عقد الزواج الذى لا يفسخ قانونًا إلا بوجود عقد طلاق موثق.
هذا الحوار لم يدر بهذا الشكل المباشر بين شخصيات العمل لكن عبقرية الإبداع الفنى جعلت الجمهور هو من يبتكره ويكتبه وكأن المشاهد هنا أصبح واحدًا من فريق ورشة كتابة السيناريو ليستكمل أثناء مشاهدته المسلسل الجمل الحوارية التى أرادها المخرج والمؤلف تدور على ألسنة الجمهور بشكل تلقائى ليصبح بالفعل جزءًا من أحداث وشخصيات وحبكة هذا العمل الدرامى وربما أيضًا شريكًا فى البحث عن حل لهذه العقدة بسيناريوهات أخرى تتعلق بوعيه بقضية تجديد الخطاب الدينى كونها قضية أساسية تمس نمط حياته واستقراره ومستقبله بشكل مباشر؛ سيناريوهات ليس من الضرورى أن تتوافق مع الحل الذى سيصل إليه المسلسل بمشهد النهاية.
لعبة نيوتن بدا فى حلقاته الأولى قصة عادية لأشخاص عاديين يتصرفون بتلقائية وعشوائية تتوافق مع سماتهم النفسية والاجتماعية التى تحكم أسلوبهم فى التفكير وسلوكهم، ومن فرط روتينية القصة والأحداث قد تنصرف عن متابعة المسلسل، غير أن رهان المخرج كان على عبقرية التمثيل وربما أيضًا نمطية الشخصيات وروتين الأحداث التى لا تختلف كثيرًا عما نعايشه فى حياتنا اليومية التقليدية؛ فهذا العمل من الأعمال القليلة التى اهتمت بتقديم شخثصيات تشبه غالبية المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة وهنا يأتى دور عبقرية التمثيل والأداء، فأنت لا تشعر أبدًا أن حازم "محمد ممدوح" أو زوجته هنا "منى زكى" أو مؤنس "محمد فراج" شخصيات مفتعلة أو ممثلة، هى شخوص تعرفها شخصيًا وتلتقيها فى حياتك الروتينية بطريقتها فى الحديث وأسلوبها فى التفكير وسلوكها وردود أفعالها وبالتأكيد لا استثنى من ذلك بدر "الفنان الكبير سيد رجب" وأمينة "الفنانة الرقيقة عائشة بن أحمد" ولا باقى نجوم المسلسل.
هذه العبقرية والتلقائية هى من احتفظت بعين المشاهد حتى بدأت وتيرة الأحداث تتصاعد بطلاق هنا الشفهى من حازم ثم زواجها الشفهى أيضًا من مؤنس وتدريجيًا تبدأ العقدة فى الظهور إذ مازالت هنا زوجة حازم من الناحية القانونية والرسمية ولا يستطيع حازم أن يقطع الشك باليقين حول نيته بشأن مراجعتها لتعود زوجة له مرة أخرى.
لست ناقدًا فنيًا –ولا أدعى ذلك- لكن أداء محمد ممدوح كان صادقًا لدرجة أننى لم أشعر للحظة أن شخصية حازم خيالية بنفس القدر من الاتقان والإبداع كان أداء محمد فراج لشخصية مؤنس فقد قدم تفاصيل ومفردات شخصية الإسلامى وإن شئت القول الإخوانى الذى يتلاعب بالدين وبالشرع حتى ينال غرضه وأبدع فى تجسيد سمات هذه الشخصية بكل ما فيها من برود ولزوجه ووقاحة وتلون وكأنى أمام واحد من هؤلاء الذين عرفتهم من عناصر جماعة الإخوان الإرهابية أو حركات التيار السلفى.
عبقرية الطرح لم تكن فقط فى سلاسة الوصول إلى العقدة وإنما أيضًا فى عرض أسبابها ذلك أن فتاوى جنرالات الإرهاب والتكفير والتطرف هى من خلقت تلك الحيرة لدى المواطن العادى بين القانون والفتوى ولو نظرنا بعيدًا لوجدنا أن فتاوى تحريم فائدة البنوك على سبيل المثال نموذجًا صارخًا فى هذه الإشكالية ومنها أيضًا فتاوى تحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم والتى كان لها الدور فى زعزعة قيم المواطنة.
عبقرية لعبة نيوتن أنه يشير إلى أننا بحاجة إلى مواجهة طرفان كانا سببًا فى عقدة حبكته الدرامية، وكل العقد والإشكاليات الناجمة عن حيرة المواطن بين الالتزام بدولة القانون، والانصياع لدولة الفتوى، أحد هذان الطرفان يرفض التجديد ويتمسك بالفقه القديم ويرى فيه حلًا لمشكلاتنا المعاصرة، فإذا تحدث عن التجديد تجده يقصد إحياء القديم لا إبداع فقه جديد، أما الطرف الثانى فتمثله الحركات الإسلاموية التى تسعى للحكم عبر سلاح الإرهاب وتهدف إلى إحداث شقاق بين المواطن والدولة عبر خطاب يزعم أن الدولة لا تطبق صحيح الدين بل وترفض الشرع جملة وتفصيلًا وأن قوانينها تتناقض فى مجملها مع جوهر الدين وإجماع علماء الأمة.
أخيرًا برافو كل من شارك فى إبداع وإنتاج لعبة نيوتن فهذه دراما تستجيب لحاجة المجتمع وتتفاعل مع قضاياه بأدوات الفن التى ليس مثلها فى التأثير.