كان الأديب الراحل صلاح عبد الصبور من القلائل الذين أضافوا إلى المسرح الشعري الحديث، ومن رواد العمل الثقافي المصري. تعددت مواهبه بين الشعر والكتابة والصحافة، حتى صار من أهم رموز الحداثة العربية، وكانت لغته الشعرية والمسرحية مليئة بالحنين لقيم اندثرت، ولكنها ظلت في أعماله التي تهتدي بها أجيالا عديدة من المثقفين؛ ربما لذلك كانت نهايته الدرامية تليق بعبقري من هذا الطراز.
التحق صلاح عبدالصبور بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، ليتتلمذ على يد الشيخ أمين الخولي، والذي ضمّه إلى جماعة "الأمناء"، ثم إلى "الجمعية الأدبية"، واللتين أثرتا بشكل كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، كما منحته الجلسة على مقهى الطلبة في الزقازيق أصدقاء الشباب الذين صاروا فيما بعد نجومًا في عوالم الأدب والفن، مثل مرسي جميل عزيز وعبدالحليم حافظ، الذي طلب منه أغنية يتقدم بها للإذاعة ويقوم بتلحينها كمال الطويل، فكانت قصيدة "لقاء".
في أعقاب تخرجه، تم تعيين عبدالصبور مُدرسًا في المعاهد الثانوية، لكنه كان مشغولًا بالأدب، فاختار السير في طريق جديد للقصيدة العربية يحمل بصمته الخاصة. هكذا بدأ ينشر أشعاره في الصحف، ليلمع اسمه بعد نشره قصيدته "شنق زهران"، وصدور ديوانه الأول "الناس في بلادي" الذي شق به مكانته بين رواد الشعر الحر، فقد كان أول ديوان للشعر الحديث يهزّ الحياة الأدبية المصرية في ذلك الوقت، ويلفت أنظارَ القراء والنقاد، حيث جمع بين صور مختلفة واستخدام المفردات اليومية الشائعة، كذلك جمع بين السخرية والمأساة، وامتزج فيه الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي انتقادي واضح، وكانت أفكاره الإبداعية تقوده ليوّظف نمطه الشعري الجديد في المسرح وتميز مشروعه المسرحي بنبرة سياسية ناقدة، ولكنها في الوقت نفسه حافظت على الحياد.
تأثر إبداع عبدالصبور بأشكال عِدة، حيث تنوعت قراءاته من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة، وخوضه في أفكار بعض إعلام الصوفية مثل الحلاج وبشر الحافي- وهما اللذان استخدمهما في كتاباته لإظهار أفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات- كذلك اطلع على الشعر الرمزي الفرنسي والألماني عند بودلير وريلكه، والشعر الفلسفي الإنجليزي عند جون دون، ييتس، كيتس، وإليوت بصفة خاصة، وهو ما ظهر عندما ربط الكثيرين بين رائعة إليوت "جريمة قتل في الكاتدرائية" ورائعته "مأساة الحلاج"، كذلك تأثر بالإيطالي لويجي بيرانديللو، وظهر ذلك واضحًا في مسرحيتي "ليلي والمجنون" و"الأميرة تنتظر"، عندما ظهرت فكرة "المسرح داخل المسرح".
كذلك اقترن اسم عبدالصبور بالشاعر الإسباني لوركا عندما قدّم المسرح المصري مسرحية "يرما"، والتي صاغ عبدالصبور الكثير منها شعرًا، كما ظهر تأثره بالشاعر الإسباني من خلال عناصر عديد بمسرحيات "الأميرة تنتظر"، "بعد أن يموت الملك"، "ليلي والمجنون"؛ وتأثر بكُتّاب مسرح العبث، خاصة أوجين يونسكو، وهو ما بدا في مسرحيته "مسافر ليل".
وفي نظرة سريعة على ديوانه الشهير "أقول لكم"، نجده ينقسم إلى ثلاثة أبواب أولها "عن الحب"، الذي أظهر عبدالصبور كصحفي محافظ، يدافع عن الأعراف في مواجهة ثورات الشباب وضد ما سماه التقليد الغربي، ويسرد من المواقف ما يُعزز نظرته التي تؤكد مسئولية المرأة عن قسم كبير مما لحق بالمجتمع من أوبئة، بل يُصرح في أحد المواضع بأنه يرى أغلب النساء العاملات "ما نزلن من بيوتهن إلا لاصطياد رجل، والحب في سطوره إن لم يكن في إطار اجتماعي مقبول فهو لهو".
وفي باب "عن الحياة" فقد سجّل عبدالصبور كل ما يقع تحت يده من قضايا اجتماعية، سواء في مصر أو خارجها، وتحدث في معظم مقالاته عن الحرية من وجهة نظره، حرية الاعتقاد، حرية المواطنة، وكان ناقمًا على التمييز العنصري، فدافع عن حقوق السود في أمريكا، وهاجم فساد الإعلام في العالم أجمع، وسجّل ما أعجبه أو صادفه بين قراءاته.
و"عن الحب والفن" يلفت عبدالصبور إلى علاقة الفن بالمجتمع، مُنددًا باللجان الفنية التي تُبيح غناء كلمات مثل "يا جارحني، يا مسهرني"، رغم أنه كشاعر يُنادي بحرية الكلمة، بل ووقف بالفعل في وجه قالب الشعر المحافظ لصالح قصيدة التفعيلة، كما كتب عن فساد الإدارات الثقافية الحكومية في الإذاعة وغيرها، وكان يُغرق بنقده كل كبيرة وصغيرة بلسان الصحفي الجاد المحافظ لا بلسان الشاعر الثائر.