لا يوجد شخص كامل والإنسان بنقاط قوته وضعفه يرتكب الأخطاء سواء في حق نفسه أو في حق من يحب، رسالة أولى تصلنا عبر تحولات شخصيات مسلسل "لعبة نيوتن" من بين رسائل عديدة وقضايا شائكة تتضمنها أحداث المسلسل الذي أراه درة التاج في دراما هذا العام. أما الرسالة الثانية فهي: كيف يمكن للتنشئة الاجتماعية لشخصيات مثل "حازم" الذي يلعب دوره الفنان محمد ممدوح أن تجعله يدمر حياته ويدمر حياة زوجته بسبب ضعف شخصيته الذي جعله شخصية مندفعة ومترددة ومتسلطة ولا تمتلك الذكاء الاجتماعي، كذلك تنشئة زوجته "هنا" والتي لعبت دورها باقتدار الفنانة منى زكي جعلتها رغم ذكائها خاضعة؛ لأن من حولها يرونها كائنا ضعيفا لا يمكنها الاعتماد على نفسها أو السفر بمفردها أو التصرف في أي موقف صعب يقابلها. هذه التنشئة بدورها تؤدي لمشكلات اجتماعية خطيرة أهمها ارتفاع نسب الطلاق.
يتناول المسلسل حلم الطبقة المتوسطة بالسفر للخارج والحصول على جنسية دولة أجنبية وهنا في المسلسل الجنسية الأمريكية، الحلم بامتلاك القوة من خلال "باسبور"، رسالة أخرى هي أن السعادةغاية لا ندركها وفقا لما نخطط له. نعود لتسلط حازم على زوجته الذي يجعله يثور لكونها لم تطع أوامره وأرادت أن تتصرف لتحقق ما تحلم به وما خططا له معا، ثم وجدت أنها اكتفت من تلاعبه بها وبأحلامها الذين وضعهما تحت سطوة تردده وضعفه. ما أوصله أن يطلقها لحظة وضع طفلهما الذي جاء بعد عدة عمليات تلقيح وسنوات انتظار طويلة..وهنا يسلط المسلسل الضوء على مشكلة خطيرة ومسكوت عنها في مجتمعنا ألا وهي " الطلاق الشفهي" الذي يدمر حياة المرأة تحت أنظار المجتمع وهو ما نهى عنه الشرع ووضع له ضوابط..وهي رسالة أخرى، حازم حينما أراد أن يتمرد دمر حياته وحينما حاول أن يواجه الرجل الذي يريد هدم حلمه في تأسيس منحل "شاهين" قتله.
بينما سلط على زوجته شخصا لا يعرفه ليراقبها ويتتبع خطواتها، وهنا تظهر شخصية "الشيخ مؤنس" التي كتبت بعناية فائقة أيضا، وهو مصري أمريكي يملك المال والسطوة والعلاقات الجيدة بالأمريكيين استطاع الفنان محمد فراج الذي اعتبره جوكر الموسم الرمضاني هذا العام بدوره في لعبة نيوتن ودوره الآخر في " ضد الكسر" أمام نيللي كريم، فقد وظف نظراته ولغة جسده ليتقن شخصية الشيخ الأمريكي حتى في تفاصيل ملابسه وحرصه على أناقته. شخصية "الشيخ مؤنس" الذي وجد أيضا هنا فريسة سهلة فاستغل ضعفها وأحبها لذلك. الشخصية لم تتكشف تفاصيلها بسهولة في البداية لكن مع الأحداث نعرف أنه ارتكب خطأ بأن اندفع وراء حبه لهنا ولم يسلمها خطاب من زوجها كان يود فيه تبرير موقفه ومصالحتها وردها له. هنا تخضع هنا لسيطرة الشيخ مؤنس، فهي وفقا لتنشئتها لا تختار الرجل بل ترتبط بمن يحبها بغض النظر إذا كانت تبادله هذا الشعور أم لا. وقد أمسكت الفنانة منى زكي بزمام الشخصية وعادت بدور قوي لشاشة التليفزيون. والحق أن صناع العمل يجعلوننا في حالة ترقب وشغف لمعرفة مصائر الشخصيات ففي كل حلقة يفكر المشاهد في مبررات كل شخصية لأفعالها ويحاول توقع سلوكهم في الحلقات المقبلة، وهذه هي اللعبة المبنية على قانون نيوتن " لكل فعل رد فعل". فالشخصيات هنا تتعرض لأفعال تدفعها لأفعال أخرى وهكذا تستمر اللعبة.. لعبة تامر محسن.
ايقاع المسلسل متزن وقد رسم تتابع الأحداث بعناية رغم أنها ورشة كتابة لكنها غيرت الصورة النمطية عن ورش الكتابة التي يحدث أن تخل بمستوى السيناريو وهو أمر يحسب للكاتبة مها الوزير، كما تم اختيار أماكن التصوير "لعبة نيوتن" ما بين مصر وأمريكا منتقاه بدقة وتحديدا منزل شخصية بدر ساهم في إضفاء الغموض على شخصيات "بدر" التي لعبها ببراعة الفنان سيد رجب و"أمينة" الفنانة التونسية عائشة بن أحمد التي ذكرتني بأداء الفنانة نجلاء فتحي في نظراتها البريئة المعبرة وتلقائية التمثيل. أما حركة الكاميرا التي نشعر أنها تدخل في حوار مع الفنان لتخرج أفضل ما عنده، تركيز المخرج على لحظات الاندماج القوية بين الفنانين وأدائهم للشخصيات مبهر. يجب أن نشيد بالنجمة الجديدة آلاء سنان التي لعبت دور "سارة" زوجة الشيخ مؤنس بأدائها الهاديء المؤثر.
نحن أمام دراما متكاملة العناصر تحترم عقلية المشاهد وتجلعه شريكا في كل تفاصيلها، تفتح أمامه الجراح المجتمعية وتجعله يفكر ويتأمل، ماذا لو كنت مكان شخصيات المسلسل؟ هل كنت ستحذو حذوها؟! دراما تامر محسن مرآة للمجتمع كاشفة لعيوبه وكاشفة لنقاط ضعف النفس البشرية.
"لعبة نيوتن" عمل تم إنتاجه بتأنٍ واحترافية شديدة توازي الدراما الأجنبية التي نتابعها على نتفليكس وغيره وسترفع سقف الدراما العربية لأفاق جديدة، هذا العمل عوضنا عن الهنات والأخطاء التي وقعت فيها الكثير من المسلسلات بسسب التسرع والهرولة للحاق بالموسم الرمضاني مع الارتباك الذي سببه وباء كورونا ومحاولة تلافي سقطات السيناريو بـ"الفلاش باك" كحل يداوي سطحية بعض الحبكات، لكن في لعبة نيوتن تم توظيف الفلاش باك بتناغم متقن.. لكن يجب أن نوجه تحية لكل صناع الدراما المصرية هذا العام وتغلبهم على كل هذه الصعاب والخروج بموسم رمضاني دسم يفوق التوقعات من حيث ضخامته وفخامته الإنتاجية.