تتفرد مدينة القاهرة بسحر خاص، تجذب إليها القلوب قبل العيون، عجز المؤخرون والمستشرقون على وصفها، فكل من يأتى إليها يأبى الرحيل، وكأنها “النداهة” التى تشدو بصوتها العذب لتجذب إليها كل من تخطو قدمه عليها، فهى مزيج من العبقرية والجنون، أما لياليها فلها مذاق خاص، التجوال في شوارعها حتى مطلع الفجر، فهى المدينة التى لا تنام. وعلى مدى شهر رمضان المبارك سنروى حكاية تلك المدينة الساحرة، أم المدن، «القاهرة» سنتحدث عن مساجدها، وكنائسها ومبانيها، وحكايات أشخاص عاشوا فيها، وغزاه وأحباب سنروى حكايتها منذ نشأتها.
ما زالنا نروى ما رآه السفراء الفرنج بداخل القصر الملكى، حينما ذهبوا لعقد تحالفًا مع المعز، فبعد أن عبروا السفراء أبوابا عديدة أخرى، وساروا في تعاريج كثيرة، كانوا يرون فيها أشياء جديدة تزيدهم دهشة وإعجابا، وصل الفرنج إلى القصر الكبير، حيث يقطن الخليفة، وفاق هذا القصر كل ما رأوه قبل ذلك.
فكانت أفنيته تفيض بالمحاربين المسلمين متقلدين أسلحتهم، وعليهم الزرد الودروع، التي تلمع بالذهب والفضة، وعليهم سيماء الافتخار بما كانوا يحرسون من الكنوز، وادخل المبعثون في قاعة واسعة، تقسمها ستارة كبيرة من خيوط الذهب والحرير المختلف الألوان، وعليها رسوم الحيوانات والطيور وبعض الصور الآدمية، وكانت تلمع بما عليها من الياقوت والزمرد والأحجار النفيسة، ولم يكن في هذه القاعة أحد، لكن شاور خر راكعًا فور دخوله، ثم نهض واقفا، ثم قبل الأرض ثانية، وخلع السيف الذى كان يلبسه في عنقه، ثم خرّ ساجدًا مرة ثالثة في ذلة وخشوع، وارتفعت الحبال فجأة، وانكشفت الستارة الحريرية الذهبية بسرعة البرق، كأنها ملاءة خفية وظهر الخليفة الطفل "السلطان العاضد" لأعين المبعوثين، وكان على وجه الأمير نقاب يخفيه تمامًا، وهو جالس على عرش من الذهب مرصع بالجواهر والأحجار الثمينة.
فكان ثراء تلك القصور خرافيًّا، ففى قصر الذهب كانت توجد قاعتين احدهما تسمي بـ "قاعة الذهب" والأخرى "قاعة الفضة" الأولى هى كانت قاعة العرش والأخرى خصصت للمقابلات، وقد كسيت الجدران بالذهب أما العرض فقد طعم بالأحجار الكريمة ووضع على منصة مذهبة، وأحاط به أجمات من نخيل من الذهب المثقل بفواكه وأزهار من الأحجار الكريم، وبه طيور من ذهب ومزخرفه بالمينا المتنوعة الألوان وهى تلك التحف التى تحدثنا عنها في الحلقات السابقة.
فكان القصر الملكى غاية في الروعة والجمال ملىء بالكنوز المذهبة والتي حكيت عنها العديد من الأساطير ما جعله ملهما للعديد من الشعراء الذين أبدعوا من الشعر أبيًا تصف روعه وجمال تلك النقوش ودقتها فيقول "عمارة اليمنى" في إحدى قصائده
"أنشأت فيها للعيون بدائعًا، دقت فأذهل حُسنها من أبصرا، فمن الرخام: ميسيرا ومسهما، ومنمنما ومدرهما ومدنرا، قد كان منظرها بهيا رائقا، فجعلتها بالوشى أبهى منظرا، وسقيت من ذوب النضار وسقوفها، حتى يكاد نضارها أن يفطرا ألبستها بيض الستور وحمرها، فاتت كزهر الورد أبيض أحمرا وعلى الرغم من كل ذلك الثراء إلا أن ما وصل إلينا من العصر الفاطمى إلا القليل من التحف، بالمقارنة بما تم وصفه في كتب التاريخ وما ذكره المقريزي وغيره من المؤرخين عن تلك الحقبة حيث كان الخلفاء الفاطميون مولعين بجمع التحف والآثار النادرة من مختلف أرجاء العالم، هذا بالإضافة إلى الهدايا الثمينة التى كانت تقدم لهم من مختلف الدول.