"أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك"(لوقا23: 42)، عندما يسرد البشير لوقا قصة صلب المسيح، فإنه في الإصحاح الثالث والعشرين، يلفت نظرنا إلى حوار لم تذكره باقي الأناجيل، حوار يدور بين ثلاثة مصلوبين في الجلجثة، هم: يسوع المسيح ومدانان اثنان، حكما بالصلب لجرم ما اقترفاه. وقبل بدءالحوار، يطلعنا القديس لوقا عن الأجواء المرافقة لعملية الصلب والتي كانت أجواء سخرية واستهزاء. فالعدد 35 يذكر، أن رؤساء الكهنة كانوا يستهزئون بالمسيح. والعدد 36 يذكر، أن الجند كانوا يسخرون منه. ان موضوع الاستهزاء والسخرية كانا الشك بقدرة المسيح على تخليص نفسه من الصليب. فالرؤساء قالوا "خلّص آخرين فليخلص نفسه، إن كان هو المسيح مختار الله"(لوقا23: 35). أما الجند، فوجّهوا كلامهم إليه مباشرة، قائلين: "إن كنت أنت ملك اليهود فخلّص نفسك"(لوقا23: 37).
في هذه الأجواء من الاستهزاء والسخرية والتعبير، ابتدأ الحوار بين المصلوبين الثلاثة (لوقا 23: 39-43). وبدلًا من أن يتضامن الجميع مع بعضهم، كونهم يتشاركون معا الآلام نفسها والمصير نفسه، نرى
أحد المصلوبين ينضم إلى جوقة الشتّامين والمستهزئين، فيجدّف على المسيح ويستهزىء بقدرته الخلاصيّة قائلًا: "إن كنت أنت المسيح خلّص نفسك وإيانا"(لوقا23: 39). غريب أمر هذا المصلوب الذي فوّت فرصة توبته في لحظاته الأخيرة، لينضم إلى المستهزئين. فالاستهزاء مرض روحي يعيق العلاقة مع الله. لقد حذّر كاتب المزمور الأول، من الاستهزاء والمستهزئين: فقال: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلًا"(مزمور 1: 1و2). فاستهزاء ذلك المصلوب بقدرة المسيح الخلاصية حرمه من النصيب معه.
الا أنه في الوقت الذي يستهزىء فيه المصلوب الأول بالمسيح، يندفع المصلوب الثاني ليوبّخ المصلوب الأول وينتهره ويقول له: "أولا أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟"(لوقا23: 40). ثم يأخذ المصلوب الثاني موقفًا معاكسًا لموقف المصلوب الأول. ليس موقف استهزاء، ولكن موقف اعتراف إيمان، موقف توبة ومصالحة مع الله. فالإيمان يبدأ، أولًا: باعتراف الإنسان بخطيته وباستحقاقه الدينونة. فذلك المصلوب التائب قال للمصلوب الآخر غير التائب، "أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا". ثم ينظر إلى يسوع المصلوب ويؤكد براءته قائلًا: "أما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله"(لوقا23: 41). لقد استطاع المصلوب الثاني، أن يدرك حقائق روحية عن المسيح، لم يستطع أن يدركها، لا الرؤساء ولا الجند ولا المدان الآخر، وهكذا انفتح باب الإيمان أمامه. فيسوع يصلب ظلمًا، ومحله يجب ألا يكون هناك على الصليب، لأنه لم يفعل شيئًا يستحق الصلب. لقد رأى ذلك المصلوب التائب ما عجز عن رؤيته الآخرون، رآه ربًّا يصلب، رآه مسيحًا يصلب. فمع أن اليهود رفضوا فكرة المسيا المصلوب، لكن ذلك المصلوب التائب رأى أن المسيح سينتهي من فترة ألمه وصلبه، وسيأتي في ملكوته بعد انتهاء هذه المرحلة المؤلمة. لهذا نظر إلى يسوع المصلوب وصرخ صرخة استغاثة، صرخة طلب الرحمة، فقال ليسوع: "أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك"(لوقا23: 42). هذه الصرخة، صرخها رجالات الله، عندما كانوا في أمسّ الحاجة إلى تدخّل الله في حياتهم. فالنبي داود صرخ هذه الصرخة فقال: "لا تذكر خطايا صباي ولا معاصيّ، كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب"(مزمور25: 7). والنبي إرميا قال للرب "أنت يا رب عرفت، فاذكرني وتعهدني"(ارميا 15:15).
عندما سمع يسوع صرخة ذلك المصلوب التائب، أسرع إلى نجدته واهبا اياه الحياة، وهو على شفير الهاوية والموت، واعدا اياه بسعادة الفردوس، بينما كان في مرارة الألم. فالمسيح المصلوب يحيي بينما يلفظ أنفاسه الأخيرة ويسلم الروح. فالمسيح المصلوب منح ذلك المصلوب التائب أكثر بكثير مما طلبه منه. فبالرغم من أنه طلب أن يذكره ويتعهده في المستقبل، أي عندما ينتهي من فترة ألمه ويأتي في ملكوته، لكن المسيح لم ينتظر المستقبل، بل قطع المسافات وتجاوز الأوقات، ومنحه مباشرة هبة الفردوس. فسعادة ذلك التائب لن تؤجل إلى الغد، بل ستتحقّق اليوم. لقد أجابه المسيح:"الحق أقول لك، أنك اليوم تكون معي في الفردوس"(لوقا23: 43).
خلاص المسيح يبدأ مباشرة. هبة الحياة الأبدية نختبرها فورا، لتستمر معنا إلى الأبد. هذا ما أعلنه المسيح لتلاميذه قائلا لهم:" هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الاله الحقيقي ويسوع المسيح الذي أرسلته"(يوحنا 17: 3). وكلمة "نعرف" في أصل المعنى، لا تشير إلى معرفة سطحية، ولكنها تشير إلى معرفة عميقة، تتأتى من الدخول في علاقة حميمة معه بالايمان. وعندما نعرف أنه أرسل ابنه يسوع المسيح ليخلصنا من خطايانا بموته على الصليب، عندها نختبر فورا، الحياة الأبدية التي تبدأ بمعرفة المسيح وتستمرّ مع ملاقاة المسيح وجها لوجه في السماء.
في الوقت الذي تكثر فيه معاناة وآلام الناس، بسبب الأزمات المتتالية من: أمنية وصحية واقتصادية ومالية واجتماعية ونفسية، يأتي حوار المصلوبين، ليذكرنا بأمرين اثنين: الأول، أن هناك الكثير ممن يتألمون ويصلبون ظلما دون أي سبب كما حدث مع المسيح الذي شاركهم آلامهم على الصليب ليمنحهم بصلبه الحياة. والثاني، يذكّرنا هذا الحوار بضرورة التعاطف مع كل المتألمين لنهبّ لمساعدتهم ماديا وروحيا، كما ساعد المسيح المصلوب، اللص التائب الذي صرخ اليه قائلا،"اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك"، فهبّ المسيح لنجدته وقدّم له الحياة والفردوس.