تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
الدراويش لا يأبهون بالخسارة، لا يخشون من شيء أو على شيء، لذا كان من الطبيعي أن ينفجر محمود درويش في وجه الهجير والتهجير والهجر، هجر ريتا له: "لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ: حُرٌّ أَنا قرب حريتي. وغدي في يدي/ سوف أَدخُلُ عمَّا قليلٍ حياتي/ وأولَدُ حُرًّا بلا أَبَوَيْن/ وأختارُ لاسمي حروفًا من اللازوردْ/ في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ/ بين تذكُّرِ أَوَّلها/ ونسيانِ آخرِها."
رغم "شتاء ريتا" الطويل ورغم وصفه لقساوتها في الهجر.. وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة/ ورمت جواربها على الكرسي فانكسر الهديل/ ومضت إلى المجهول حافيةً، وأدركني الرحيل، رغم كل ذلك الوجع لكن درويش لم يمت من البرد وظل متقدا بالحروف وللحروف وذهبت "ريتا" بلا أثر أو سيرة سوى التي كتبها هو عنها.
ولأننا عندما نعشق نستحيل إلى ملائكة، ولأن "الموسيقى هي خطاب الملائكة" كما قال كارليل فكان من الطبيعي أن يقدم سيد درويش البحر للعالم لحن "أنا هويت" الذي ربما لم يكن رغم عالميته سوى خطاب مغرق في الرقة والعذوبة أراد درويش البحر أن يرسله لـ"جليلة" التي احتفظ بـ"قلبها" الذي انفرط من حول عنقها عندما همس في أذنها: "أحبك".
ولأن "في الموسيقى، المشاعر تستمتع بوقتها" كما قال نيتشه فإن سيد درويش رغم اختفاء "جليلة" شهورًا طويلة استمتع بمشاعره تجاهها فانسابت من قلبه الألحان لتعلم العالم الرقة والعشق الحقيقي.
ولأن "الموسيقى هي ضوء القمر في ليلة قاتمة للحياة" كما قال سارتر أو لأنها - أي الموسيقى - "تغسل الروح من غبار الحياة" كما قال أورباخ، فلم يكن غريبًّا أن يقدم سيد درويش للعالم لحن "أنا عشقت" ليغسل روحه التي أرهقها العشق، عشق "جليلة".
سيد درويش عشق "جليلة"، "جليلة" ملهمة سيد درويش.. عرف الهوى معها لكنها أذاقته المر ككل من ظننهن ملائكة.. لم يستسغ درويش البحر المذاق المر، لم يقبل المهانة التي تفننت "جليلة" في كيلها له، فحطم المرآة التي تحمل ملامح معذبته وصفق الباب وراءه، وعلى شاطئ البحر انفرد بقلبه الطيب وعنفه "والله تستاهل يا قلبي".
لم ينسحق درويش البحر أمام "جليلة"، استند على عوده حتى اشتد وأجبر العالم على الانحناء أمام أوتاره الجهنمية التي صهرت كل القبح ليستحيل إلى جمال من الله.
الدراويش يا سادة لا يأبهون بالخسارة وإن أظهروا غير ذلك فلا تحسبونهم ضعفاء وإن توسلوا إليكم: "زوروني كل سنة مرة".