مهمة صعبة أن يستطيع أي كاتب أن يجمع انطباعاته عقب قراءة سيرة شخصية موسوعية مثل دكتور مصطفى الفقي في مقال واحد! فقد عرفنا مصطفى الفقي عبر عدة إصدارات تعكس فكره ورؤيته وتروي محطات حياته الحافلة التي قضاها بين الشرق والغرب وجمع خلالها صداقات من شتى الأطياف والطبقات والجنسيات. فضلا عن شخصيته الكاريزمية التي تعرفنا عليها عبر لقاءاته التلفزيونية والبرامج التي قدمها والتي لمستها عند لقائي به، ولمست ما يتمتع به من قراءة مذهلة للشخصيات التي يقابلها. وهذا دفعني لأتعرف أكثر على رحلة تشكل شخصيته كسياسي بارز ودبلوماسي محنك ورجل ثقافة من الطراز الرفيع. أما الكتاب الذي يروي سيرته الذاتية بكل تفاصيلها، فقد صدر أخيرا في 512 صفحة.
كل صفحة في الكتاب تعكس شخصية د. الفقي منذ الصفحة الأولى ستجد مقتطفات من مقولات وأعمال أدبية عالمية كافكا، شكسبير، جبران، أرسطو، مكرم عبيد، وإبراهيم ناجي، نيلسون مانديلا.. يفي الفقي بعهده مع القاريء على الصدق والشفافية منزها كلماته ومذكراته عن الهوى والشخصانية بل يطل على حياته بأسلوب موضوعي وكاشف لا يخل ومن السخرية والطرافة المعهودة في أحاديث د. الفقي والتي تضفى متعة مجالسته أو الألفة والمتعة أثناء قراءة ما يكتب، والأهم من ذلك التنوع في الأسلوب ما بين الحكي والتوثيق والاستطراد والاستشهاد، وكلها تقنيات كتابيه ساهمت في زيادة متعة التهام صفحاته لنلهث محاولين معرفة المزيد عن تاريخ مصر أولا وتاريخ المنطقة العربية وكواليس ما يحدث بين زعمائها، وخلفيات العلاقات المصرية الدولية ثانيا.
الرحلة تبدأ منذ سنوات الطفولة عام 1944 ويروي كيف كانت مشكلة الخجل تؤرقه في طفولته، فكان يتغلب عليها بالدخول إلى حظيرة الدجاج؛ ليخطب فيها بصوت عال، ويركز على الموضوع بعيدا عن الرهبة، ويشعر بالتصفيق حينما تجتمع الدجاجات رافعة أجنحتها ومن هنا أصبح دائم الحصول على المرتبة الأولى في مسابقات الخطابة!.
ويكشف عن تأثره بالمنفلوطي وتوفيق الحكيم وكتابات طه حسين وأفكار العقاد، وكيف أن هاجس الموت شكل شخصيته منذ الطفولة إذ خطف "التيفود" أرواح كثيرة من الأطفال في نهاية الأربعينيات وبالتالي دفعه ذلك إلى أفاق الفلسفة والأسئلة وتحديدا نحو فلسفة " الشك". في هذا الفصل سنتعرف على التغيرات التي عايشها المجتمع المصري خاصة في الريف الذي تأثر كثيرا بصعود ثورة يوليو وتغير النظرة للأعيان وتأميم الأراضي وسيادة الأفكار الليبرالية والتقدمية التي زاحمت الفكر الديني.
عايش الفقي مصر الكوزموبوليتانية متعددة الثقافات والجنسيات والديانات، ويروي عن زميل دراسته "رحمين" الذي جاء وقت اضطر فيه أن يمضى حصة الدين أمام مكتب الناظر أو في فناء المدرسة لعدم وجود معلم دين يهودي يمكنه احتساب الدرجات له، لكنه كان يمضى وقته معهم في اللهو، إلى أن يأتي العدوان الثلاثي عام 1956 لتتوقف الدراسة ويتغيب "رحمين" شهرين كاملين راحوا يبحثون عنه ويسألون عن ابن الجواهرجي في سوق دمنهور لكنهم يعرفون فيما بعد أنه غادر البلاد بلا رجعة مع أهله إلى خارج مصر، وهنا تمزقت أوصال المجتمع المصري.. اختفي "رحمين" واختفى معه التسامح والتعددية وتغير تفكير المصريين، وتغيرت رؤيتهم لأنفسهم وللعالم، فقد كانت فعلا نقطة تحول في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي وكانت لها عواقب ستتكشف لاحقا مع رصد د. الفقي لها عبر رحلة حياته. والحق أن سرده لحقبة حياته في لندن "بلاد الإكسلانسات" جاء مفندا الكثير من كواليس حياة المشاهير من فنانين ورجال السياسة ومنهم أشرف مروان، فهو بحق شاهد على العصر.
والحق أن سرد د.الفقي لحقبة عمله بمؤسسة الرئاسة في عهد مبارك بما يحمله من مكاشفة وجرأة وموضوعية يستحق كل التقدير والإعجاب، وقدرته على تفنيد نقاط القوة والضعف في فترة حكم مبارك وإشارته لأكبر خطايا ذاك النظام وهي إهمال التعليم، ناهيك عن براعته في سرد الأحداث بتدفق وربطها ببعضها البعض إلى جانب تحليل الشخصيات وتدوين الذكريات كلها رسمت ملامح كتاب مميز في أدب السيرة الذاتية ينقلك من دروب السياسة ويعبر بك دهاليزها إلى مجال الفن وأهله وأفاق العمل الثقافي مازجا ذلك بالتاريخ الاجتماعي لمصر والمصريين.. وحقيقة قد حظيت به مكتبة الإسكندرية التي يترأسها حاليا بعد سنوات من إسهامه في إحيائها وجمع التبرعات لها بعلاقاته الواسعة في العالم العربي واستطاع أن ينهض بها من جديد عقب تعثرها فترة ثورة يناير، وأنشأ بها مراكز بحثية جديدة لتستعيد مكتبة الإسكندرية دورها كمنارة حضارية ورمز لقوة مصر الناعمة.. قراءة رواية د. الفقي هي رحلة تتزود فيها بما يغنيك عن عشرات الكتب في الأدب والفكر والسياسة والتاريخ حتما.