مما لا شك فيه أن الصيام لم يفرض لأول مرة مع الإسلام، ولكنه فرض على الأمم القديمة من قبله بدليل قول الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". فهل عرف أجدادنا المصريون القدماء الصوم؟ وكيف يكون الصوم وسيلة للهداية والتُقَى؟. الواقع أن صيامنا اليوم هو جزء هين جدًا من صيام أجدادنا ولا يختلف عنه كثيرًا. وقد أثبت العلم الحديث حقيقة ما كان يبغيه المصريون القدماء من صومهم فقد كانوا يصومون صيام الدهر وهو ثلاثة أيام فى كل شهر للوقاية من الأمراض وربما علاجها، ولكن الأهم عندهم كان تنقية الروح دومًا مما يدنسها وهذا يوافق ما قاله رسولنا الكريم (من صام ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ فقد صام الدهرَ). وقيل أيضًا أنهم كانوا يصومون شهرًا قمريًا كاملًا كل عام على ديانة سيدنا إدريس. كما كانوا يصومون أيضًا أيامًا معدودات فى عيد وفاء النيل وعيد الحصاد وعيد بداية السنة، ويصومون لمدة أربعة أيام من كل عام تبدأ عندما يحل اليوم السابع عشر من الشهر الثالث من فصل الفيضان، وفى كل صيامهم كان الصائم يمتنع تمامًا عن الطعام والشراب والنساء. كما كانوا يصومون صيام الانقطاع لمدة ٧٠ يومًا وفيه يأكلون فقط ما تنتجه الأرض من فيض نيلهم أى الأكل النباتى وهو ما أثبت العلم الحديث فوائده الصحية لمرضى السكر والقلب والكلى. فكلمة "صو" فى اللغة الهيروغليفية تعنى امتنع و"م" تعنى عن، فكلمة صوم تعنى "امتنع عن" عند قدماء المصريين. وكان الكهنة عند دخولهم فى الرهبنة يصومون تمامًا عن الطعام لمدة سبعة أيام متتالية؟ وأثبت العلم الحديث أن الصيام التام لعدة أيام تتراوح بين ٥-٧ أيام يحدث ضغطًا شديدًا على خلايا الجسم فتتخلص من الخلايا القديمة والمتهالكة Autophagy ويستبدلها بخلايا جديدة نشطة Rejuvenation تقوم بوظائفها على أكمل وجه وتقلل من فرص الإصابة بالسرطان والعديد من الأمراض المزمنة الأخرى حيث ينخفض هرمون يسمى IGF-1 والمعروف بارتباطه الوثيق بالسرطان. واعتقد المصريون القدماء أن الصيام يحسن وظائف المخ ويجعله أكثر إدراكًا وتركيزًا ووعيًا كما أن البوذيين أيضًا لا يمكنهم الوصول إلى مرحلة النيرڤانا التى تسمو فيها الروح إلا بعد الصيام التام لفترات طويلة. وهذا أيضًا ما أثبته العلم الحديث فى السنوات القليلة الماضية، فعند الصيام التام والمطول يتحول غذاء المخ من الجلوكوز إلى الكيتونيات ketones التى تعتبر أقوى عشرات المرات من الجلوكوز فى إمداد المخ بالطاقة. وهو ما استخدم منذ عشرات السنين لعلاج مرضى الصرع، ووجدت الأبحاث الحديثة أنه يحسن وظائف المخ كالذاكرة والتركيز والقدرة على التفكير وهو ربما ما يفسر كلمه "تتقون" فالجسم والعقل وسمو الروح فى أفضل حالاتهم مع هذه النوعية من الصيام القاسي. وقد عرف المصريون القدماء أن المعدة بيت الداء فتراهم ينصحون بالطعام القليل حتى يكون بالمعدة فراغ لهضم الطعام، وهو نفس ما قاله بعد آلاف السنين طبيب العرب الحارث بن كلدة "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وأعطى كل بدن ما عودته".
والمدهش أن المصريين القدماء كانوا يصومون أيضًا من الفجر وحتى مغرب الشمس وصيامهم كان عن الطعام والماء ومباشرة النساء وهو ما لم يطيقه العرب حين أمروا بالصوم المماثل فخففها الله على أمة محمد بقوله "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ". وصيام أجدادنا المصريين كان هدفه الأساسى سمو الروح تمامًا عن كل ملذات الدنيا استعدادًا لليلة القدر التى كانوا يعتقدون أن فيها يُقسَّم الرزق والعمر. فقد كانوا يحتفلون بعيدًا لمدة يومين يسمى "يشى شلام ربه" وكلمة شى تعنى "القدر" أو النصيب وكانت ليلة القدر هى الليلة بين يومى العيد، فهذا العيد هو "عيد السلام الذى يقسم فيه الله الرزق والنصيب"، فمسمى "ليلة القدر" كان معروفًا للمصريين القدماء من قبل الإسلام (دائرة المعارف الإسلامية ١٤/٣٩٩). والمدهش أن ابن كثير فى تفسيره لليلة القدر قال إنها اللية التى تقدر فيها الآجال والأرزاق ٤/٥٣١، فهل من توافق؟ الله وحده أعلم. أما صيام الكهان الذين يبغون السمو الروحى الكامل فكان يبدأ بصيام عشرة أيام عن اللحوم والنبيذ، ثم يعقب ذلك تلقينه واجباته المقدسة، ثم يستأنف الصوم لعشرة أيام أخرى يمتنع فيها عن كل طعام به روح كاللحوم والطيور ويتغذى على خبز الشعير والماء ليرتقى إلى مرحلة أعلى فى المهام الروحية، ثم فى العشرة أيام الأخيرة يمتنع عن جميع أنواع الطعام والماء حتى يصفى عقله تمامًا ويزداد تركيزه وتسمو نفسه. رحم الله أجدادنا المصريين القدماء الذين تعلمنا منهم الكثير وما زلنا نفتح كنوز معرفتهم وعلمهم الفذ لنصاب بالذهول!.
* استند المقال لعدة مراجع، من بينها: القرآن الكريم، دراسة أثرية للدكتور حسين دقيل، قاموس د. بدوى وكيس، دائره المعارف الإسلامية، د. نديم السيار، د. لويس عوض، تفسير إبن كثير، الدكتور علاء الخزاعى فى كتابه (التطور التاريخى للصيام).