لأول مرة أذكر اسمه دون أن ألحقه بلقب الأستاذ، لكن ضروريات العنوان الصحفى فرضت الاختصار، ورغم ذلك كان وسيظل أحد أبرز الأساتذة من جيل الرواد في الصحافة المصرية والعربية وجزءا مهما من تاريخ الصحافة والسياسة خلال أكثر من نصف قرن مضى.
رحل الكاتب والصحفى الكبير الأستاذ مكرم محمد أحمد تاركًا إرثًا صحفيا ونقابيًا سيظل منهلًا لأجيال تعلمت منه معنى أن تكون صحفيا ملتزما بقيم وشرف المهنة ورسالتها في كشف الحقائق والدفاع عن الحريات والتمسك بالعدل والانحياز لقضايا الناس والوطن.
رحلة الفارس الذى يحمل فكرًا وقلما لا يمكن اختصارها في سطور قليلة فقد تابع وشاهد عن قرب كل ما مر على مصر والعالم من أحداث كبرى كانت سببًا في تغيير خريطة الكون، وأستطيع القول إن الأستاذ كان مشاركًا بالرأى والدور في بعض منها وخصوصًا تلك الأحداث المتعلقة بقضايا الداخل المصرى والعلاقات المصرية -العربية.
لم يمكث الأستاذ كثيرًا في جريدة الأخبار وربما لم يسترح -هذا الشاب القادم من المنوفية والحاصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة من جامعة القاهرة -لمدرسة أخبار اليوم الصحفية وهو الذى كان منفتحًا أثناء دراستة الجامعية 1953-1957 على مجموعات فكرية ذات طابع يسارى دون ارتباط تنظيمى كامل بها وفقا لما قاله لى الدكتور فتحى عبدالفتاح الكاتب الصحفى المعروف وأحد قيادات اليسار المصرى في الخمسينيات،وفضل العمل في جريدة الأهرام الذى لمع مبكرًا فيها كمحرر لقسم الحوادث ثم محققًا صحفيا ورئيسا للقسم، حتى اختارة الأستاذ محمد حسنين هيكل ليكون مديرا لمكتب الأهرام في دمشق، وكان ذلك الانفتاح الأول للصحفى الموهوب على الشئون العربية في عاصمة الإقليم الشمالى لدولة الوحدة «الجمهورية العربية المتحدة »،عاد الأستاذ إلى مصر عقب الانفصال، ليصبح محررًا عسكريًا ويرافق القوات المصرية التى ذهبت لدعم ثورة سبتمبر عام 1961 في اليمن التى أطاح ضباطها الأحرار بإمام المملكة المتوكلية، وأعلنوا قيام الجمهورية العربية اليمنية، واستطاع أن يدعم علاقاتة مع قادة اليمن الجدد وامتدت هذه العلاقات بثوار جنوب اليمن الذى كانوا يخوضون كفاحا مسلحا ضد الاحتلال البريطانى وانعكست هذه العلاقات الصحفية على حجم الأخبار والتقارير الذى كان يرسلها للأهرام حتى أرسل تقريرا سياسيا به بعض المعلومات العسكرية التى رأت القيادة العسكرية المصرية في صنعاء خطورة نشرها وحولت الأستاذ مكرم محمد أحمد لمحاكمة ميدانية بتهمة إفشاء معلومات عسكرية تضر بسلامة القوات المصرية، ويقال إن حكمًا مشددًا قد صدر في حقه، وتم إلغاؤه بعد تدخل الأستاذ هيكل لدى الرئيس جمال عبدالناصر الذى طلب من المشير عبدالحكيم عامر ذلك.
عاد الأستاذ مكرم إلى القاهرة وتولى مهمة مدير تحرير الأهرام وهو المنصب الأهم بعد رئاسة التحرير، وتولى الرئيس أنور السادات مهام الرئاسة بعد وفاة الرئيس ناصر ومرت مياه كثيرة في قنوات الحكم في البلاد وقيام الرئيس السادات بزيارة القدس وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل بعد ذلك، وكان السادات يشكو من عدم معرفة الإعلام المصرى بما يجرى داخل إسرائيل واعتماده على الوكالات الإخبارية العالمية أو ما ينقلة الصحفيون الأجانب، فقام الأستاذ مكرم بأخطر رحلة صحفية لإسرائيل وهو مدير تحرير الأهرام ونشر الأهرام وقتها عدة تقارير وحوارات من داخل إسرائيل تحدث فيها قيادات من جماعات اليسار والسلام الإسرائيلى المتعاطفة مع حقوق الشعب الفلسطينى وكذلك قيادات عربية من الفلسطينيين الذين يطلق عليهم عرب الداخل أو عرب إسرائيل، ووسط هجوم أو غضب البعض من هذه الخطوة، سألت الأستاذ مكرم بعد سنوات عن هذه المغامرة الصحفية التى عرضته للنقد، فأجابنى أن من يقول هذا تطبيعا لا يريد أن يفهم ويعرف كيف يفكر خصمه ومن يقف بجانب قضيته.
الطريف أن مع إعجاب الرئيس السادات بشجاعة الأستاذ مكرم فإنه تعرض في أوائل سنوات حكمه للفصل والتجميد والنقل لمؤسسات القطاع العام مثل باتا وغيرها تماما مثلما حدث له هو وعشرات الصحفيين والمفكرين في عهد الرئيس عبد الناصر.
عرفت أستاذى مكرم محمد أحمد في أوائل الثمانينيات وأنا في منفاى الاختيارى في العاصمة اليمنية صنعاء، وكنت أعمل صحفيًا في جريدة «الثورة» اليمنية وهى الجريدة اليومية الأولى هناك، وكان الرئيس السادات قد تعرض للاغتيال على يد عصابات الجماعات الإسلامية المتطرفة وتولى الرئيس حسنى مبارك الحكم في مصر، وبدا اهتمام القيادة المصرية الجديدة واضحا في محاصرة هذه الجماعات المسلحة والقضاء عليها مع استرجاع العلاقات المصرية -العربية التى توقفت عقب توقيع الرئيس السادات لاتفاقيات كامب دافيد،كنت أتابع ما يحدث في مصر باهتمام وأقرأ كل الصحف والمجلات المصرية التى تصل إلى اليمن ويتلقفها اليمنيون بكل الود والحب والعرفان للدور المصرى في بلادهم سواء في دعم ثورتهم في الشمال أو في الجنوب أو في وجود آلاف المعلمين المصريين أسهموا في النهضة التعليمية في بلد عاش عزلة فرضها نظام كهنوتي، كانت مجلة المصور ترجمة لفكر رئيس تحريرها، مجلة مستنيرة تحمل طابعا تنويريًا تتخذ موقفا ً سياسيًا واضحا ضد جماعة الإخوان وجماعات العنف الدينى التى ولدت من رحم التنظيم الإرهابى الأم، تفتح صفحاتها لكل وجهات النظر حتى المعارضة منها، وتبنى جسورا مع الأشقاء العرب، فأرسلت حديثًا صحفيًا مع أستاذى المفكر والمؤرخ المصرى البارز الدكتور محمد أنيس رئيس قسم التاريخ في آداب القاهرة، ومؤسس أقسام التاريخ في أكثر من جامعة عربية منها جامعتى صنعاء وعدن وكان ذلك عقب تحالف حزب الوفد مع جماعة الإخوان في انتخابات عام 1984، وقيام الدكتور أنيس بالاستقالة من الحزب هو وعدد من المثقفين ومنهم الأستاذ يوسف إدريس والدكتور فرج فودة، فتلقف الأستاذ الحوار بعين الحرفى ونشره على 6 صفحات كاملة في إطار أهم أبواب المجلة «حوار الاسبوع» مع اسمى الذى كُتب ببنط كبير لافت، دون أن يعرفني، وبعدها طلب منى أن أكون مراسلا للمصور في اليمن، وأن تساهم المجلة في دعم العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين، وتفاصيل حوار الدكتور محمد أنيس كثيرة نشرت بعضا منها على صفحتى الخاصة، ولعل هذه الواقعة تثبت كما يقول الكثيرون إن الأستاذ مكرم كان صيادا ماهرًا ليس لديه انحيازات شخصية والمقياس الوحيد هو جودة المادة الصحفية. وبعدعدة خبطات صحفية طوال عامين، وأهمها متابعة أحداث مذبحة 13 يناير عام 86 في عاصمة ما كان يسمى بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية «عدن » طلب منى العودة للقاهرة وبعدها بشهور قليلة أصدر قرارا بتعينى محررا صحفيًا في المصور فاتحا أبواب الكتابة الصحفية على مصراعيها كمحقق ومتابعا لملف الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومحررا للشئون العربية.
ظل الأستاذ مكرم محمد أحمد رئيسا تحريريا من عام 1984 وحتى عام 2005 أى نحو ما يقرب من 21 عاما ورغم تركه موقعه كرئيس تحرير المصور إلا أننى ظللت أتعامل معه كرئيس تحرير أبدى لي، رغم رئاستى لتحرير مجلة الهلال ومطبوعاتها الأخري، ثم انتقالى لرئاسة تحرير مجلة أكتوبر بعد 4 أعوام قضيتها في الهلال، وأشهد أن الأستاذ كان أستاذا ومعلما بصدق ولم يجبر أحدا على كتابة رأى أو تحقيق مخالف لما يعتقده، وكان يدير المجلة والمؤسسة من طرقات مبنى دار الهلال العريق وبين المحررين، لا يختبئ في مكتبة كما كان يفعل بعض من تولوا مثل هذه المسئولية، يفتح باب النقاش في اجتماع التحرير، جاد وصارم ولكن في داخله إنسان ومهنى راق ومحترف، يغضب ولكنه يبتسم عندما يجد موضوعا أو تقريرا على مكتبه مناسبا للنشر فينسى أسباب غضبه ومن أغضبه ويبادر بفتح صفحات المجلة أمام من غضب منه بالأمس وكأن شيئا لم يحدث،
انحاز أستاذنا الكبير للحقيقة وأصول المهنة كان وطنيا مخلصا، تمسك بقيم الصحافة مدافعا عنها ودائما ما كان يردد مقولته الشهيرة (إن المهنى الجيد هو النقابى الجيد)، ورغم قربه من دوائر صنع القرار ويعتبر من أقرب الصحفيين للرئيس الراحل حسنى مبارك وكاتب أكثر خطاباته وخصوصا في السنوات الأولى من عهدة، بل أكثر الصحفيين الذين أجروا حوارات صحفية معه، كان الأستاذ مكرم يرى أنه صحفى مستقل وأن المؤسسات الصحفية ونقابة الصحفيين جزء من الدولة المصرية التى ننتمى إليها جميعا ومن الخطأ افتعال قطيعة أو خصومة مع الدولة المصرية فنحن جزء أصيل منها وعلينا دائما رفع سقف الحريات والاستفادة من التيار المؤيد لحرية الصحافة داخل هذه المؤسسات بالحوار وليس بالصدام
منبها لخطورة الخلط بين العمل النقابى والعمل الحزبي، وتحويل نقابة مهنية لمنصة معارضة لصالح حزب أو جماعة. لهذا ومن نفس المنطلق انحاز الأستاذ لثورة 30 يونيو مدركا لحجم المخاطر التى تعرضت لها مصر عقب أحداث يناير وأدرك أهمية الحفاظ عى مؤسسات الدولة المصرية وفى مقدمتها القوات المسلحة،التى أدارت شئون البلاد في أعقاب هذه الأحداث وأعلن بوضوح تأييده للرئيس عبدالفتاح السيسي بعد أن تم استعادة الوطن من براثن جماعة استهدفت- ليس فقط -سرقة الهوية المصرية، بل الوطن المصرى نفسه.
وكان الراحل الكبير أول من تولى رئاسة المجلس الأعلى للإعلام من وذلك في الفترة من 11 أبريل 2017 وحتى يونيو 2020.
ويعتبر من الرعيل الأول للصحفيين المصريين وعُرف عنه تمسكه بقيم العمل المهنى ودفاعه عن حرية الصحافة والصحفيين وانحيازه للدولة المصرية وقيمها الوطنية والقومية وخاض عدة معارك فكرية وصحفية ضد جماعات العنف والإرهاب وتعرض لمحاولة اغتيال خسيسة من عناصر هذه الجماعات وشارك بقلمه وفكره في التصدى لفكرهم المتطرف ومخططاتهم الإجرامية.
وظل الأستاذ مكرم محمد أحمد لآخر لحظة من عمرة وفيًا لمهنته، يحمل قلمه وأوراقه ليكتب الخبر ويدققه ويتحرى صدقة ويجرى الحوار ويصيغ التقرير وكأنة صحفى شاب لايزال يخطو خطواته الأولى في بلاط صاحبة الجلالة التى أخذت من عمره الكثير، مؤسسا لمدرسة جديدة في التحقيق الصحفى والتحليل السياسى ومتابعة الحدث من مكانة فتخرج من مدرسته عشرات التلاميذ الذين لمعوا في سماء الصحافة والإعلام المصرى والعربي.
يتفق الجميع على أن الصحافة قد فقدت مهنيا رفيع المستوى، ومقاتلا وفارسا نبيلًا امتلك قلمًا حرًا، وأفنى حياته من أجل مهنته ووطنه، رحل الأستاذ والمعلم والنقابى الكبير وهو شامخ معتزً ابمواقفه الصحفية والوطنية، رحل كالأشجار التى تموت واقفة منتصبة القامة بعد أن ألقى بثمار عطائه للجميع.