ربما كانت الكتابة لعبًا في عصور أخرى، أيام التوازن والانسجام، لكنها اليوم مهمة جسيمة لم يعد الغرض منها تسلية العقول بالقصص الخرافية أو مساعدة هذه العقول على النسيان، بل الغرض منها تحقيق حالة من التوحّد بين جميع القوى الوضاءة التي لا تزال قادرة على الحياة حتى أيامنا الانتقالية هذه، والغرض أيضا، تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه.
نعم يا "نيكوس"، لم تعد الكتابة ترفًا في هذا الزمن، بل وسيلة للعيش بعقل لا تراوده الأفكار الحمقاء، ومحاولة ضرورية للنجاة من الوحدة وعقاقير الاكتئاب.
مارست الكتابة يا نيكوس لكي تخلص روحك من الوحش الذي يسكنها، وبنبل يليق بك تركت لنا "زوربا"، ليعلمنا الغناء والرقص رغم الفقر والمرض والوحدة، تركته يرقص رقصته الشهيرة لتنتفض أرواحنا ضد الوحش الكامن داخلها، وتنتفض عقولنا ضد كل قوى التخلف التي تتربص بنا خلف كل رقصة، أو مشهد من فيلم، أو صفحة من كتاب.
أكتب لأن تلك رغبتي، أكتب لأنني لا أقدر على القيام بشيء آخر غير الكتابة، أكتب كي أناقش بعض الآراء التي وردت في كتبي، أكتب لأنني غاضب منكم جميعاً، من العالم كله، أكتب لأنه يروق لي أن أنزوي في غرفتي اليوم كله، أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها، أكتب حتى يعرف العالم أجمع أي حياة عشنا، وأي حياة نعيش، أكتب لأنني أحب رائحة الورق والحبر.
عندما تكون غاضباً من العالم لا تمسك ببندقية، ولكن اكتب واستمر بالكتابة، ربما يستحيل ما كان مصدر غضبك إلى مصدر بهجتك، وإن لم يكن فيكفيك أنك لم تسمح لطاقاتك السلبية أن تلتهم إنسانيتك، وتستحيل تحت وطأتها إلى وحش يفتك بنفسه في نهاية الأمر؛ سيد "باموق" معك كل الحق، لا بد من أن نمارس الكتابة لنقف على كل الحقائق المؤسفة، أن نكتب عن واقعنا التعس، ربما نعثر على طريقة ما لتغييره، وإن لم نستطع فيكفينا الهوس برائحة الورق والحبر فبهما، ودون غيرهما انصلح الكون.
الكتابة هي انفتاح جرح ما، أن تكتب يعني أن تهجر معسكر القتلة، يجب أن يكون الكتاب فأساً للبحر المتجمد فينا، معسكر القتلة تتسع رقعته يوماً بعد يوم حتى ضاقت بنا الحياة يا سيد كافكا.. المعسكر ما زال يستقبل عميانا جددًا، لكن هذا لا يعني أن نتجاهل نصيحتك بل على العكس تماماً، علينا أن نكتب كي تنهار كل جبال الثلج التي تحاوطنا.. كي ننأى بأنفسنا من معسكر القتلة.
إن كل فردٍ يعاني فكرة الزوال، ويخال نفسه غير مسموع ولا ملاحظ، في عالمٍ لا مبالٍ، ومن جرّاء ذلك يريد– ما دام الوقت سانحاً– أن يتحول هو نفسه إلى عالم من الكلمات خاصٍ به.
اكتب لا ليلاحظك العالم، اكتب لتتحول أنت إلى عالم أنت كل من فيه، وكل ما فيه يخصك، كل ما فيه هو لك وحدك، حينها سيلاحظك العالم، اكتب وضع ما قاله السيد كونديرا صوب عينيك.
كنت، وما زلت أعتبر مهنة الكتابة من أنبل وأنفع المهن، وإنني لمقتنع تماماً من نفعي في هذا المجال، فلربما استطعت أن ألفت الانتباه مجدداً والحصول على اسم جديد لامع يضمن وجودي، كما اعتبرها دوستوفيسكي اعتبرها أنت أيضا فهي حقا من أنبل المهن.