يبدوا أن أديس أبابا ظلت طيلة عقد من الزمان تصدر الوهم للعالم، بأنها في حاجة إلى كهرباء لإنارة البلاد، وأن الهدف الرئيسي من "سد النهضة" هو الكهرباء وليس المياه، وظلت طيلة هذه السنوات وهي تتخيل أنها تستغبي العالم في مشروعها.
الحقيقة التي لا تريد أن تعترف بها إثيوبيا أنها تعتبر النيل الأزرق والذي يشكل نسبة (80%-85%) من المياه المغذية لنهر النيل، وهي لب المشكلة في موقف هذا البلد والذي يريد أن ينفي تاريخا لملايين السنين، حيث يجري النهر من الجنوب إلى الشمال بفعل الطبيعة، وبعد كل هذا تأتي إثيوبيا لتمنع ذلك.
بل الأخطر في ملف سد النهضة أن الأصوات المغلوطة في إثيوبيا علت في السنوات الأخيرة، بشأن "ليس لمصر ولا السودان حق في مياه النيل، وكفى ما حصلتا عليه من مياه" ولسان حال أديس أبابا، "المياه لنا" فقط، وهو ما لفت إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في تصريحات قبل أيام، عندما قال أنه سمع هذا الكلام خلال حديثه أمام البرلمان الإثيوبي.
القضية في الأساس ترتبط بضرورة أن تغير إثيوبيا من مفاهميها المغلوطة، والتي تنكر التاريخ والمواثيق الدولية، فعليها أن تعترف أولا بأن النيل الأزرق هو مجرى مائي دولي تبدأ منابيعه من الهضبة الإثيوبية، ويمتد لدول المصب.
ولو اعترفت إثيوبيا بهذا فهو بداية الحل، لأن المطامع في أديس أبابا في المياه أولا وأخيرا، واي حديث عن قضية الكهرباء مجرد عباءة لمطمع رئيسي، وهو حرمان المصريين والسودانيين من حق تاريخي ودولي ومحكوم باتفاقيات في مياه نهر النيل.
ويبدو أن هناك محاولات من أديس أبابا لمسح التاريخ والجغرافيا، ليس إلا إما بسبب أطماع، أو سوء فهم، وربما الإثنين معا، فنبع نهر النيل يبدأ من بحيرة تانا في مرتفعات إثيوبيا بشرق القارة الإفريقية، ويُطلق عليه اسم النيل الأزرق في السودان، وفي إثيوبيا يطلق عليه اسم "آبباي"، ويستمر هذا النيل حاملاً اسمه السوداني بطول 1400 كيلومتر، حتى يلتقي بالفرع الآخر – النيل الأبيض – ليشكلا معا النيل منذ هذه النقطة وحتى المصب في البحر المتوسط.
هذا هو الواقع، ومن يحاول تغييره حتما يفتح باب "جهنم" على كل المنطقة، ومصر ظلت على مدى عقد من الزمان (10 سنوات) في محاولات تفاوضية، مع أديس أبابا، وبمرونة غير مسبوقة على أمل أن تعود إثيوبيا إلى صوابها، ولكن دون جدوى.
واستدعت المواقف الإثيوبية واستمرار فرض الأمر الواقع على كل الأطراف، تغيير في لغة الخطاب من الدولة المصرية، واي تراجع عن لغة الخطاب الجديد سيكون أمر مرفوض شعبيا، فإذا كانت الحكومة قد ملت النهج الإثيوبي، فإن الشعب، وصل إلى مرحلة النفس الأخير مع أديس أبابا.
فالأمر ليس "قضية وجود بالنسبة لدولتي المصب"، كما قال وزير الخارجية سامح شكري فقط، بل هي بالنسبة للشعب هي الروح، ومن يمس روح الشعب، فلن يقف أفراده مكتوفي الأيدي، وأي كلام غير ذلك مثلما خرج وزير وقال "إن الملء الثاني ليس نهاية المطاف"، فهو كلام لم يعد مقبولا في أعلى مراحل الخطر، والقرارات الأحادية من إثيوبيا تعني الدخول في مرحلة جديدة، نحو صراع وجود وحياة وروح.
وأعتقد يقينا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وصل إلى النفس الأخيرة مع إثيوبيا، ومن يقرأ تصريحاته جيدا يدرك مدى التغيير في معالجة الموقف، وحتما يضع عينه على نبض الشارع في قضية تمس حياة ليس كل مواطن فقط، بل كل كائن حي على أرض مصر.
وفي لقاءه الأخير مع وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف"، أكد الرئيس على استمرار مصر في إيلاء هذا الموضوع أقصى درجات الاهتمام في إطار الحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وذلك باعتبارها مسألة أمن قومي بالنسبة لمصر، وذلك من خلال التوصل إلى اتفاق قانوني شامل وملزم بين الدول الثلاث بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، مجددا تصريحاته قائلا "عدم حل هذه القضية من شأنه أن يؤثر بالسلب على أمن واستقرار المنطقة بالكامل".
وأتصور أن مصر في مرحلة "الإخطار الدولي" لتضع العالم تحت مسؤولياته، قبل الخطوة القادمة، فجولات المسؤولين المصريين في العالم على قدم وساق، لتخلي مصر مسؤوليتها من هذا التعنت الإثيوبي، قبل أول "خطوة" نحو الحماية لحقوق شعب، وضع قيادته في مسئولية أكبر، وربما نستطيع القول "اختبار".
ولنلاحظ المواقف الدولية، المتتالية وآخرها من روسيا وتونس، والعديد من الدول الإفريقية، والتي وقعت مع ثلاثة منها مؤخرا، اتفاقيات عسكرية "بورندي، وأوغندا، والسودان" شركاء حوض النيل، الرافضة المساس بالحقوق المائية التاريخية لمصر في مياه النيل ورفض الإجراءات الأحادية في هذا الصدد، مطالبين أديس أبابا باستغلال الفرصة الأخيرة في ملف "الوجود".