"إنهم يكرهون أنفسهم"، بالفعل هم كذلك، بعد أن أقاموا مندبة وجنازة شبعوا فيها لطم على الاحتفالية التاريخية التى تابعها العالم وكانت مبعث فخر لكل المصريين بانتقال ملكات وملوك مصر من المتحف المصرى إلى متحف الحضارة، وهى من المرات القليلة التى يشاهد فيها المصريون تلك الحالة الفريدة من الإبداع الفنى بعد أن لوثت أعينهم وآذانهم ما يشاهدونه من مهرجانات بيكا وشكوش وأشباههم.
وعند الإعلان عن ذلك الحدث بدأ اللطم والعويل على نقل وعرض مومياوات قدماء المصريين خاصة النساء والذى وضعوه تحت طائلة “المحرم”، حتى أن الشيخ الإخوانجى الشهير وجدى غنيم صاحب تشبيه قناة السويس بـ"طشت" السيدة والدته، حزين إننا نقلنا مومياء الملكات بشعرها والشعر عورة كما تعلمون ويبعث على الإثارة الجنسية لمشايخ الفتة والإخوان وتوابعهم من السلف والدواعش وغيرهم.
بدأ فريق "الندب" بالكلام أن نبش القبور حرام يستوى فى ذلك قبور المواطنين والملوك من الفراعنة، مطالبًا بضرورة إعادة المومياوات إلى قبورهم مرة أخرى وأن ذلك يتفق مع الشريعة الإسلامية، بينما الواقع يقول إنها أجساد تيبست منذ آلاف السنين حتى تحولت وأصبحت كالحجر وصارت تاريخ وتراث وحضارة أمة لا بد من التعرف عليها وتقديرها أمام العالم.
ويأتى إلينا أستاذ فى الفقه المقارن بجامعة الأزهر، بفتوى تحرم استخراج جثامين المصريين القدماء "المومياوات" باعتباره "نبش للقبور" وهو أحد الأمور المنهى عنها فى الدين الإسلامي.
فتوى الفقيه، والذى يحلو لمريديه وصف فتواه بالإسلام الوسطى المعتدل والسليم، لاقت رواجا وتأييدا بين ممثلى التيارات المتشددة والسلفية والتى سبق وأن أصدرت فتاوى لها نفس المعنى استنادا إلى حرمة الموتى وحقوقهم فى التكريم.
فى المقابل رفضت المؤسسات الدينية الرسمية، وفى مقدمتها دار الإفتاء المنوطة إصدار الأحكام الفقهية والشرعية، لهذه النوعية من الفتوى.
وقال الدكتور إبراهيم نجم مستشار مفتى الديار المصرية والأمين العام لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، إن علينا الاعتبار والاستفادة مما وصل إليه أصحاب الحضارات القديمة الذين بسطوا العمران فى الأرض، ولجأوا إلى تسجيل تاريخهم اجتماعيا وسياسيا وحربيا نقوشا ورسوما ونحتا على الحجارة.
وينتقد الدكتور أحمد كريمة أستاذ الفقة المقارن بجامعة الأزهر وعضو الهيئة الاستشارية للفتوى بالأزهر الشريف، فتوى دار الإفتاء المصرية، والتى أباحت من خلالها عرض المومياوات بالمتاحف.
وأكد «كريمة» فى تصريحات إعلامية للصحف والفضائيات، أنَّ تلك الفتوى الصادرة من دار الإفتاء خلط فى الأوراق، وتحريف الكلم عن مواضعه، وفتح باب إهانة جثامين الموتى والاتجار بها.
وردا على ذلك، أكدت الدكتورة فتحية الحنفى، أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، أنه لا مَانع شرعًا مِن عرض مومياء الفراعنة فى المتاحف، وزيارتها من قِبل الناس، لأنها تحكى تاريخَ أمةٍ سابقةٍ، وهذا يكون بغرض العلم والاتعاظ بما حدث فى هذه الفترة الزمنية.
ولفتت إلى أن الصحابة جاءوا إلى مصر، ووجدوا الأهرامات وأبو الهول وغيرها، ولم يصدروا فتوى أو رأيًا شرعيًا يمس هذه الآثار، التى تعد قيمة تاريخية عظيمة.
لم تكن "المندبة" التى أقامها مشايخ الفتنة والإخوان وتوابعهم هى المرة الأولى، ففى خلال فترة حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بقت تلك المومياوات داخل غرفتها بالمتحف دون السماح بعرضها على الجمهور، عندما أصدر الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الراحل، فتوى بعدم جواز عرض جثامين الموتى على المواطنين.
ويعد نقل المومياوات الملكية الفرعونية، حدث عالمى فريد من نوعه، لم يحدث منذ أكثر من قرن، جرت عملية النقل من خلال سيارات مصممة بطراز مصرى قديم، مع الخيول، وموسيقى عسكرية، وتواكب ذلك مع رفع الستار عن المسلة الفرعونية بميدان التحرير، بينما اتجه الموكب إلى كورنيش النيل، واستقبلها فى الفسطاط أوركسترا سيمفونى بقيادة المايسترو نادر عباسي.
تعرضت المومياوات للسرقة عام 1700 قبل الميلاد، وهو ما دفع الكهنة لحماية أجساد الملوك فى مقبرة أمنحتب وأخرى بالدير البحرى، قبل العثور عليهم بالصدفة فى 1871، ليتعرضوا للسرقة مجددا، قبل أن تعثر عليهم الشرطة، ويتم نقلهم على يد العالم المصرى الشهير أحمد باشا كامل، وعالم آخر بريطانى لمتحف بولاق، أحد أقدم المتاحف بالبلاد، عام 1881، فى حدث عالمى ضخم، وفقا للدكتور مجدى شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار.
ويقول شاكر، إنه كان فى استقبال موكب النقل للمومياوات حينها، الخديوى توفيق، الذى وجّه بنقلهم إلى المتحف المصرى بميدان التحرير.
وعقب ذلك، جرى تخصيص غرفة للمومياوات فى المتحف المصرى، لكنها كانت مغلقة فى عهد ملك مصر فؤاد الأول، الذى حكم البلاد من 1917 إلى 1936، وهو النهج نفسه الذى سار عليه أنور السادات، إثر الفتوى المذكورة أعلاه.
وبعد صدور تلك الفتوى، ظهر اتجاه ضخم لإعادة المومياوات إلى المقابر، فى حدث ضخم جرى الاستعداد له بشكل بالغ، على حد قول كبير الأثريين، مشيرا إلى أن المثقفين تصدوا لذلك بشدة ومنعوا إعادة الملوك الفراعنة إلى القبور، وتغيير القرار لاستمرار غلق غرفة المومياوات فى المتحف المصرى وعدم عرضها على الجمهور.
ومنذ ذلك الحين، ظلت المومياوات الفرعونية التى جرى العثور عليها فى الدير البحرى ومقبرة أمنحتب، بعيدة عن أعين الجمهور حتى عام 1993، حين تقرر إزاحة الستار عنها، وتخصيص قاعة لها فى المتحف المصرى، وايداعها داخل صناديق زجاجية لحفظها، حتى يأتى الحدث التاريخى فى 2021، ويفرح المصريون مع العالم ونغنى مع أنشودة الحفل من ترانيم "مهابة الإلهة إيزيس":
"إى رمت نترو إن باچو
نتس حنوت واعيت
سنج إن إيست: بغ إن إس جت اف
سنج إن إيست: انتس حنوت آمنت تاوى إم اسيبوى
سنج إن إيست: إرت رع ور حسوت إم سبات
سنج إن إيست: ردى إن إس عات إن نيسو بتي"
"يا أيها البشر والأرباب الذين فى الجبل
إنها السيدة الوحيدة
مهابة لإيزيس: فإنها التى تلد النهار
مهابة لإيزيس: فإنها سيدة الغرب والأرضين معا
مهابة لإيزيس: فإنها عين رع عظيمة القدر فى الأقاليم
مهابة لإيزيس: فإنها التى تهب الكثير لملك مصر العليا والسفلى".