كيف صنع أبناؤنا كل هذا الجمال في غفلة منا!؟ ليبهرونا على هذا النحو الذي لم يفارق أذهاننا، منذ ليلة نقل مومياوات ملوك مصر، وأبهر العالمين في مشارق الأرض ومغاربها !؟
وكيف كشفوا لنا أن "نور" مصر لم يخبُ ولم يخفت، ولكنه توارى قليلا، لكي يعاود السطوع مجددا، وإلى أبد الدهر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
مصر التي أسفرت عن نفسها، وفتنة جمالها، في حفل نقل مومياوات ملوكها، أشهدت العالم أن الخلف من أبنائها لا يقلون عن السلف من آبائهم حضارة وتحضرا.. وقادرون على خطف أنظار العالم، بما قدموه من فن، وإبداع، ونظام وتنظيم.
فكيف أهال السفهاء منا التراب على كل هذا الجمال، وصدروا لنا قبح أشباههم!؟ كيف أقنعنا سفهاؤنا بأن جيناتنا نضبت من كروموزومات الإبداع والفن الراقي، ولم تعد تحمل سوى جينات من أفقدونا شهية حب الفن، وأجبرونا على أن نتنحى جانبا، نجتر ما تبقى لنا من تراث، نمسك بتلابيبه ونحرص على أن نعض عليه بالنواجذ، ما استطعنا من قوة.
ما جرى درس لنا يكشف أن معدن هذا الشعب أصيل كالذهب، لا يضره تراب علاه، ولا ينال منه تسيد السفهاء ساحته، حين من الدهر، فلا الذهب يصدأ من إهمال اعتراضه، ولا الزبد ينفع الناس مهما علا على السطح، وظن البعض أن أمواجه لها الغلبة والانتصار.
أثبتت مصر أنها صانعة الفن الأصيل وأن مبدعيها الحقيقيين بحاجة إلى من يكتشفهم ويرعاهم، ويصون إبداعهم، ويقدمه للناس العطشى إلى الارتواء بما لديهم، من نهر الإبداع العذب النقي.
مصر بحاجة إلى منظومة إعلامية تستطيع أن تقدم هذا الفن الراقي إلى متذوقيه، من خلال قنوات التليفزيون كما كان يتم منذ عقود على يد فنانين عظام، قدموا لنا حفلات فرق الموسيقى العربية في برنامج العظيمة الراحلة، الفنانة والمؤرخة "سمحة الخولي".
كما كانت إذاعة البرنامج الثاني في الإذاعة المصرية تقدم لنا السيمفونيات العالمية، لكي يطلع كل مهتم وهاو على الإبداع الغربي، من الكلاسيكيات العالمية، لكبار المؤلفين الموسيقيين في العالم.
لا شك أن هذه المهمة من الصعب أن تقوم بها القنوات الخاصة، فهذا عمل دولة لا يستطيع أن ينهض به إلا الدول التي لا تهدف من خلاله إلى تحقيق ربح سريع بصرف النظر عن تنمية ذائقة راقية للمتلقي.
مندهش من كثرة القنوات الخاصة، التي تذيع على مدى الساعة أغاني المهرجانات، التي صمت آذاننا، وصدرت لنا القبح في كل مكان. في الميكروباص، والتكاتف، وحفلات الأفراح الشعبية، وغير الشعبية، بل تسللت إلى الأفلام والمسلسلات، وفرضت نفسها على المجتمع، بكلماتها القبيحة التي أساءت إلى صورتنا في الداخل والخارج، فضلا عن النشاز الذي يخرج من أفواه المؤدين لها.
نحن بحاجة إلى تكرار حفلات من تلك التي خلبت ألبابنا برقيها، خاصة أن لدينا العشرات، بل والمئات من المبدعين الحقيقيين، الذين يحتاجون إلى من يهتم بموهبتهم، وعبقريتهم ويزيل عنها غبار الإهمال، ويمنحهم لمعة الاهتمام، ويقدمهم إلى الجمهور المتعطش للفن الحقيقي، المعبر عن ثقافة وحضارة شعب، قدم للعالم سيدة الغناء العربي أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب والرقيق عبدالحليم حافظ فضلا عن مبدعي التلحين، أمثال رياض السنباطي وبليغ حمدي والموجي ومكاوي وغيرهم من الآلاف الذين شكلوا قوة مصر الناعمة، في مجالات الغناء، والموسيقى، ما زلنا حتى الآن نأتنس بهم، إذا عصفت بنا رياح السوقية والسفاهة التي تجتاحنا منذ سنوات.