الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أم الدنيا من أيام "تحوت"!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرا ما تتردد عبارة "مصر أم الدنيا" على ألسنة الناس ولكن قليلا ما عُرف مصدرها وهل أطلق المصريون هذه المقولة على أنفسهم لإرضاء غرورهم والتعبير عن فخرهم وتباهيهم بذاتهم أم أن التسمية لها دلالتها في منظور الثقافات الأخرى.
وكان لابد من البحث عن أصل عبارة "مصر أم الدنيا" التي تم تداولها على نطاق واسع خلال الساعات الماضية للإشادة بالاحتفالية البديعة لموكب المومياوات الملكية والتي تلخص أيضا قاموسا من المرادفات في لغة الإطراء يعبر عمّا يخالجهم من شعور بالفرحة والبهجة والزهو إزاء هذا الحدث العالمي، وكيف خرج إلى العالم في بهاء متفرّد فأثنى على أبناء النيل وبراعتهم؛ وقد أطربت عبارات الثناء المصريين بلا شك بمثل ما أطربتهم وأكثر إعادة إحياء حضارة أجدادهم الفراعنة وشحذها لهممهم.
ويرجع علماء المصريات مصطلح "مصر أم الدنيا" إلى قدماء المصريين وفلسفتهم الخاصة بالأمومة ومفهوم الأنثى والذكر، وبالتحديد إلى تحوت أو توت، إله الحكمة عند الفراعنة ويعد من أهم الآلهة المصرية القديمة، ويُرمز إليه برأس أبو منجل ونظيره الأنثوي الإلهة ماعت، ويُصوّر دائما ممسكا بالقلم ولوح يكتب عليه؛ وقد علّم قدماء المصريين الكتابة والحساب وله دور أساسي في محكمة الموتى، حيث يُؤتى بالميت بعد البعث لإجراء عملية وزن قلبه أمام ريشة الحق ماعت. ويقوم تحوت بتسجيل نتيجة الميزان فإذا كان قلب الميت أثقل من ريشة الحق عندئذ يكون من المخطئين العاصين ويُلقى بقلبه إلى وحش مفترس تخيّلي اسمه عمعموت فيلتهمه وتكون هذه هي النهاية الأبدية للميت. أما إذا كان القلب أخف من ريشة الحق (ماعت) فمعنى ذلك أن الميّت كان صالحا في الدنيا فيدخل الجنة يعيش فيها مع زوجته وأحبابه، بعد أن يستقبله أوزيريس، إله البعث والحساب وهو رئيس محكمة الموتى عند قدماء المصريين، وفقا للأسطورة الدينية القديمة.
ويقول أحمد شوقي، الباحث في المصريات، إن تحوت ذكر في متونه: "مصر صورة للسماء والكون كله يسكن في معابدها"، موضحا أن "مصر جسدها تحوت بالقدرة الإلهية المتجلية في الكون لتبني الحياة وتساعد على تعمير الأرض بنشر الإنسانية في ربوعها، كما أنها " الحاوية والجامعة بداخلها على كل عوامل تكوين الروح الإنسانية الحقيقية على الأرض". ويشير شوقي إلى أن مصطلح "أم الدنيا" جاء ذكره بهذا العمق الفلسفي لدى قدماء المصريين، و"أصبح أهل مصرهم تلك القدرة الكامنة داخلها على تخليق الإنسانية والنظام الحيّ من فوضى الأفكار والمعتقدات والصراعات التي تدور في العالم". ويضيف أن مصر نجدها في دور إيزيس، الأم الأخيرة، وتفنوت الأم الأولى، وشعب مصر الذي يقوم بدور حور، الملك الأخير، ورع الملك الأول، لذلك هي مصر "أم الدنيا"، وأبناؤها هم "أبناء النور". ذلك هو لقب مصر منذ المصريين القدماء واكتسبت ذلك الدور دائما بين الأمم واكتسب أبناؤها ذلك اللقب على مر العصور.
ويذكر المؤرخ الدكتور وسيم السيسي، الباحث المعروف فى علم المصريات، أن التسمية أعيد تداولها في العصر الحديث خلال الحرب العالمية الأولى من طرف القيادة العامة للحلفاء في بلجيكا "لأن مصر كانت تأوي وتُطعم 15 جيشًا للحلفاء على أرضها، ولذلك كانوا يطلقون عليها (أم الدنيا) بسبب إطعامها لكل الدنيا".
أما التفسير الآخر المتداول بكثرة لأصل العبارة فنسبة للسيدة هاجر، زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانت من مصر وتزوجها إبراهيم ثم انتقل للجزيرة العربية وتم تعميرها ورفع قواعد البيت العتيق فكانت التسمية تكريما للسيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل.
وقد ترجم المتصوفة معاني "أم الدنيا" بعبقرية المخيال الشعبي ومن هنا جاءت أشعارهم التي ينشدونها، وتنسب أحيانا لـ "ابن عروس" الشاعر المتصوف، قائلة: "من حبّنا حبيناه وصار متاعنا متاعه، ومن كرهنا كرهناه يحرم علينا اجتماعه".
وإذا كان موكب المومياوات الملكية قد جسّد معنى "أم الدنيا" في اللحظة الراهنة بكل ما تتضمنه من رمزية تلك الرغبة في استدعاء حضارة الأجداد التي تفوقت في العلوم والفنون والابتكارات كافّة، فإن من يشاهد ما يتحقق حاليا على أرض مصر يدرك أن المصريين يسيرون بثبات على طريق استعادة مكانة مصر لتصبح أم الدنيا "بحق وحقيقي" وأن الحلم ليس مستحيلا رغم الشكوك التي قد راودت البعض في لحظات صعبة، وكذلك التحديات التي تستوجب بذل جهود جبارة ليتجاوز أبناء "أم الدنيا" العقبات التي تعرقل حلمهم الذي يعلو بهم ليعانق الدنيا.
olfa@aucegypt.edu