لم يصادق يومًا العزلة، لم يعزف لحنًا مميزًا كغيره في مديح الوحدة، ومع ذلك أغلق شرفته الوحيدة بالغرفة لكي لا يسمع البكاء الزاحف ببطء من خلف الجدران الرمادية التي أحاط بها "فرانكو" خصر إسبانيا التعيسة، رغم أنه تأكد مرات عدة أن النافذة مغلقة، لكن صوت البكاء يعلو صوت الريح، والبرد قارس ككلب ينهش أرواح الذين يتوسدون التعاسة بلا أمل في حرية أو عمل، الأجواء باردة والطابور الخامس ينتظر إشارة من "فرانكو" لإشعال الموقف، المؤامرة مناخ عام والشعر والموسيقى لا يقويان على فقء عين الجوع؛ لذا قرر ألا يكتب قصيدة هذه الليلة، جلس إلى طاولة الكتابة ليكتب إلى حبيبته عن خواء إسبانيا، وغياب الترس النزيه والعدل من العالم الضيق: ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟! قولي لي كيف أحبك إن لم أكن حرا؟ كيف أهبك قلبي.. وقلبي ليس ملكي؟!
لم تجبه "ماريانا"، كما لم ينتظر إجابة، فلا وقت لديه إلا للشعر ليرهق من الآن رجال "فرانكو" المختالين بسنابكهم الصقيلة، لتحصد إسبانيا شمس النهار، ويغني الياسمين في الأماسي الشفيفة أغنيات الحقول والمناجم.
فرانكو يكره الوسطاء، يريد احتكار العالم، ولوركا؛ لأنه "وسيط الطبيعة الذي يظهر عظمتها بالكلمات"، ولأنه "يفهم كل ما لا ُيفهم، ويسمي الأشياء البغيضة بأسماء صديقة؛ ولأنه "يعلم أن الدروب كلها مستحيلة" لهذا مضى في هدوء بعد أن أعطى إسبانيا والعالم خارطة للحرية والحب والعدل.
"فلتشعر بالعار إذا دنا أجَلُك، وخلت حياتك من أي انتصار للإنسانية" من المؤكد يا هوراس مان أن إيزابيل آلفاريز لا تشعر بالعار، لكن ينتابها شعور بالغ بالإعياء من طول ما سهرت لتُعد "الإضراب" ضد "فرانكو" ورجاله، وتروي للعالم فصلا من فصول القمع والتجويع والاستبداد والاستغلال في كروم العنب الحزينة!
"الإقناع والإيمان هما ملوك العالم، لا القوة الغاشمة"، هل تقصد يا "كارليل" النقية "بيرل بك" صاحبة "الأرض الطيبة" المليئة بفلاحي الصين الذي حصدهم الجوع وجففتهم الشمس في صوامع الفقر.. أم تقصد "جوركي" صاحب "الأم".. أم تقصد غيرهما من الذين واجهوا ببسالة كل صنوف الاستعباد والبطش، ودافعوا عن حرية الفرد في عمل وأجر عادل وحياة إن لم تكن سعيدة فعلى الأقل تكون بسيطة؟!