وكما كان فكر محمد عبده متردداً وربما مرتبكاً فى البداية، كذلك كان الأفغاني ولعلنا نغفر لهما ذلك بسبب صعوبة المرتقى.. وربما كان السبب هو ما قاله الدكتور عاطف العراقى "كان الأفغانى يدخل نفسه فى مناقشات حول موضوعات علمية وفلسفية وهو غير مؤهل للبحث فيها" [د.عاطف العراقى – العقل والتنوير فى الفكر العربى المعاصر – صـ131] ويؤكد أن هذا هو السر "فيما أورده من تأويلات مسرفة وقد لا نجد لها أساساً، وبسبب تعميمات أعتقد أن أكثرها لا يعتبر صحيحاً"، ويقول عنه باحث آخر: "هو سياسى حاول أن يتلاعب بالجميع فتلاعب به الجميع، دعا إلى الماسونية وأنشأ لها فى مصر محفلاً ضم إليه 300 من أكابر الشخصيات فى مصر ثم انقض على الماسونية بهجوم شديد، وهو يدعو لجامعة إسلامية ولهوية إسلامية ويتكلم فى نفس الوقت عند الاقتداء بالغرب وتعلم علومه. ويقول بإنشاء جامعة مثل جامعة كمبردج فتأتى جامعة عليكره ذات النمط الإسلامى المتشدد أحياناً [Louis gardet – Les Hommes de lisLam – p.355].
وبرغم حديثه عن جامعة كمبردج فإنه يعترض على إصرار محمد علي على فتح مدارس علمانية حديثة، وعلى البعوث التى أرسلها للدراسة فى الخارج، ويتساءل فى مرارة عما استفادته مصر من مثل هذه البعوث [الأعمال الكاملة – المرجع السابق - صـ475] ثم يعود الأفغانى ليناقض نفسه فيقول "الدول المسيحية تغلبت على الحكومات الإسلامية بالعلم مصدر القوة، وينهزم المسلمون بالجهل مصدر الضعف" ويؤكد أن سبب ضعف الخلافة العثمانية أنها "لم تقرن فتوحاتها الحربية بالعلم، فلا يتسنى للسيف المجرد أن يتحكم بأمة تدافع عنها مدافع العلم، فلا يمكنك أن تحكم العلم بالجهل" [المرجع السابق] وقد استخدم الأفغانى فى دعوته بمصر وسائل فيها قدر من الغوغائية، ونقرأ وصفاً لإحدى جلساته التى كان يعقدها فى قهوة متاتيا بالعتبة "اعتلى السيد جمال الدين منبر الخطابة وافتتح كلامه بقوله: اللهم إنك قلت وقولك الحق. يا أيها السادة اعلموا أن المدنية الإنسانية الفاضلة، وأن الصراط المستقيم للسعادة، لا يتحققان بغير القرآن، ويمضى السيد جمال الدين فى خطاب مؤثر وعندما انتهى من خطابه وجد أن أعضاء المجلس قد أغشى عليهم من التأثر، ووجد الباقين على وشك أن يفقدوا رشدهم فبكى السيد وأخذ يردد: أى وحقك اللهم لقد نسيناك فأنسيتنا أنفسنا وظل يردد هذا القول حتى سقط مغشياً عليه، وهكذا ظل الحاضرون ثلاث ساعات بين بكاء وأنين وإغماء ثم تقدم حسن بك عطا صهر خديو مصر إلى السيد وقام برش ماء معطر على وجهه فأفاق" [سعيد الأفغانى – نابغة الشرق جمال الدين الأفغانى صـ33 – نقلاً عن كتاب كفتار خوش يا رقلى تأليف الشيخ محمد محلاتى القروى الفاسى] .. هكذا تبدى الأفغانى لتلاميذه مستخدماً أقصى أدوات التأثير الصوتى والكلامى، أو هكذا حاول تلاميذه أن يصوروه أمام عامة المصريين الممتلئين دهشة إزاء هذا الشيخ الذى يقول كلاماً جديداً تماماً ويقدمه مغلفاً دوماً بمسحه دينية، وتصرفات صوفية أو شبه صوفية. وإن كان الأفغانى قد قال فيما بعد "أنا لا أفهم قول الصوفية الفناء فى الله، وإنما يكون الفناء فى خلق الله عن طريق تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم" [عباس العقاد – محمد عبده – سلسلة أعلام العرب – صـ124] .
..إنها مسحة نقشبندية تلك التى تدعو إلى الفناء فى خلق الله وليس فى الله ذاته. ويحاول د. عاطف العراقى تفسير هذه الظاهرة الأفغانية قائلاً: "لقد أتى الأفغانى إلى مصر، كما ذهب إلى كل مكان مرتدياً ثياباً دينية ومتحصنا بالدعوة بعبارات دينية عالية النبرة بما يدفع البعض إلى اتهامه بأن عباراته الدينية كانت مجرد ثياب اتخذها ليسهل تأثيره على الآخرين خلال عمله السياسى" [د. عاطف العراقى – المرجع السابق] ولعل ما شجع على هذا الاعتقاد كما يقول د. العراقى "كثرة المتناقضات فى أقواله ومواقفه".
ونمضى مع متناقضات الأفغانى.
وبرغم حديثه عن جامعة كمبردج فإنه يعترض على إصرار محمد علي على فتح مدارس علمانية حديثة، وعلى البعوث التى أرسلها للدراسة فى الخارج، ويتساءل فى مرارة عما استفادته مصر من مثل هذه البعوث [الأعمال الكاملة – المرجع السابق - صـ475] ثم يعود الأفغانى ليناقض نفسه فيقول "الدول المسيحية تغلبت على الحكومات الإسلامية بالعلم مصدر القوة، وينهزم المسلمون بالجهل مصدر الضعف" ويؤكد أن سبب ضعف الخلافة العثمانية أنها "لم تقرن فتوحاتها الحربية بالعلم، فلا يتسنى للسيف المجرد أن يتحكم بأمة تدافع عنها مدافع العلم، فلا يمكنك أن تحكم العلم بالجهل" [المرجع السابق] وقد استخدم الأفغانى فى دعوته بمصر وسائل فيها قدر من الغوغائية، ونقرأ وصفاً لإحدى جلساته التى كان يعقدها فى قهوة متاتيا بالعتبة "اعتلى السيد جمال الدين منبر الخطابة وافتتح كلامه بقوله: اللهم إنك قلت وقولك الحق. يا أيها السادة اعلموا أن المدنية الإنسانية الفاضلة، وأن الصراط المستقيم للسعادة، لا يتحققان بغير القرآن، ويمضى السيد جمال الدين فى خطاب مؤثر وعندما انتهى من خطابه وجد أن أعضاء المجلس قد أغشى عليهم من التأثر، ووجد الباقين على وشك أن يفقدوا رشدهم فبكى السيد وأخذ يردد: أى وحقك اللهم لقد نسيناك فأنسيتنا أنفسنا وظل يردد هذا القول حتى سقط مغشياً عليه، وهكذا ظل الحاضرون ثلاث ساعات بين بكاء وأنين وإغماء ثم تقدم حسن بك عطا صهر خديو مصر إلى السيد وقام برش ماء معطر على وجهه فأفاق" [سعيد الأفغانى – نابغة الشرق جمال الدين الأفغانى صـ33 – نقلاً عن كتاب كفتار خوش يا رقلى تأليف الشيخ محمد محلاتى القروى الفاسى] .. هكذا تبدى الأفغانى لتلاميذه مستخدماً أقصى أدوات التأثير الصوتى والكلامى، أو هكذا حاول تلاميذه أن يصوروه أمام عامة المصريين الممتلئين دهشة إزاء هذا الشيخ الذى يقول كلاماً جديداً تماماً ويقدمه مغلفاً دوماً بمسحه دينية، وتصرفات صوفية أو شبه صوفية. وإن كان الأفغانى قد قال فيما بعد "أنا لا أفهم قول الصوفية الفناء فى الله، وإنما يكون الفناء فى خلق الله عن طريق تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم" [عباس العقاد – محمد عبده – سلسلة أعلام العرب – صـ124] .
..إنها مسحة نقشبندية تلك التى تدعو إلى الفناء فى خلق الله وليس فى الله ذاته. ويحاول د. عاطف العراقى تفسير هذه الظاهرة الأفغانية قائلاً: "لقد أتى الأفغانى إلى مصر، كما ذهب إلى كل مكان مرتدياً ثياباً دينية ومتحصنا بالدعوة بعبارات دينية عالية النبرة بما يدفع البعض إلى اتهامه بأن عباراته الدينية كانت مجرد ثياب اتخذها ليسهل تأثيره على الآخرين خلال عمله السياسى" [د. عاطف العراقى – المرجع السابق] ولعل ما شجع على هذا الاعتقاد كما يقول د. العراقى "كثرة المتناقضات فى أقواله ومواقفه".
ونمضى مع متناقضات الأفغانى.