تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تدور في مصر في الوقت الراهن معركة سياسية كبرى بين التيارات الأيديولوجية المختلفة، وذلك في إطار السعي لتأسيس ديموقراطية مصرية جديدة بعد ثورة 25 يناير 2011.
هذه الثورة أدت إلى إسقاط النظام السلطوي الذي ترسخت قواعده في عهد الرئيس السابق “,”حسني مبارك“,”. وبدأت بعد ذلك مرحلة انتقالية للخلاص من إرث السلطوية الثقيل، وبناء نظام ديمقراطي جديد.
وهكذا فتح الباب لأول مرة في التاريخ السياسي المصري لأول انتخابات تنافسية لرئاسة الجمهورية في مصر. وقد أقبل على ترشح نفسه للمنصب الرفيع عشرات من الشخصيات السياسية المعروفة، والتي تنتمي إلى تيارات إيديولوجية متنوعة، وهذا التنوع يمتد من اليمين إلى اليسار مرورًا بالوسط.
ولكن أهم من ذلك كله تبلور معسكرين أساسيين ينضوي تحت لواء كل معسكر منهما مجموعة من المرشحين.
المعسكر الأول يضم أنصار الدولة المدنية الديموقراطية، والمعسكر الثاني يضم أنصار الدولة الدينية، وأبرزهم جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” والأحزاب السلفية المتعددة. غير أن جماعة الإخوان المسلمين لها ثقل خاص في معركة رئاسة الجمهورية المصرية الدائرة الآن لأسباب متعددة. لعل أهمها هي أنها صاحبة المشروع الاستراتيجي الأقدم في العالم العربي لتأسيس دولة دينية تطبق أحكام الشريعة الإسلامية.
وهو المشروع الذي أسسه مؤسس الجماعة الشيخ “,”حسن البنا“,” والذي أنشأها عام 1928. والسبب الثاني أن جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” لها مرشح في انتخابات الرئاسة المصرية هو الدكتور “,”محمد المرسى“,” رئيس حزب الحرية والعدالة.
وثالث الأسباب أن حزب “,”الحرية والعدالة“,” روّج منذ أيام ترشيح “,”خيرت الشاطر“,” إلى مشروع أطلق عليه مشروع النهضة، زعم فيه قادته أنهم خططوا لمشروع متكامل للنهضة بمرجعية إسلامية.
وفي هذا الوصف الأخير يكمن التناقض البين بين فكر النهضة الذي دعا إليه مجموعة متنوعة من المفكرين العرب الذين ينتمون إلي المشرق والمغرب معاً، ابتداء من “,”رفاعة رافع الطهطاوى“,” حتى “,”طه حسين“,” في مصر، ولا ننسى في هذا المقام الإبداعات المغربية التي تتمثل أساسًا في التراث النهضوي “,”لخير الدين التونسى“,”.
وهذا الفكر النهضوي الأصيل تأمل رواده وتدبروا أسس ومنطلقات الحداثة الغربية، ووقفوا طويلاً أمام المبدأ الحاكم لهذه الحداثة والتي مبناها أن “,”العقل محك الحكم على الأشياء وليس النص الدينى“,”.
وهكذا ارتبط هذا المبدأ الحاكم بالتقدم الذي شهدته المجتمعات الغربية، والتي لم تقنع بهذا المبدأ ولكنها قبل ذلك ركزت على بلورة “,”الفردية“,” من حيث احترام حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والثقافية، واستندت إلى “,”العقلانية“,”، وإلى الاعتماد على العلم والتكنولوجيا.
والواقع أن مفكري النهضة العربية الأولى في استجابتهم للتحدي الغربي توزعوا بين ثلاثة استجابات متمايزة. الأولى كان علمها البارز الشيخ “,”محمد عبده“,” الذي قرر أنه لا تعارض بين الإسلام والعلم، وبالتالي يمكن أن يكون الفكر الإسلامي نموذجًا حضاريًا متكاملاً، وإن كان لم يدع إطلاقًا إلى إنشاء دولة دينية.
والاستجابة الثانية كانت للفيلسوف المصري “,”أحمد لطفي السيد“,”، الذي رأى في الليبرالية الحل لمشكلات التخلف العربى. والاستجابة الثالثة والأخيرة كانت للكاتب الماركسي المصري “,”سلامة موسى“,”، والذي يعد رائد الدعوة إلى التقنية والتصنيع في العالم العربى، للخلاص من ثقافة المجتمع الزراعي المتخلفة.
هذه هي النماذج المثالية الثلاث التي بلورها المؤرخ المغربي المعروف “,”عبد الله العدوى“,” في كتابه “,”الأيديولوجية العربية المعاصرة“,”. وهكذا يمكن القول إن أيًا من مفكري النهضة العربية الأولى لم يدع لتأسيس دولة دينية.
غير أن جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” في مشروعها للنهضة بمرجعية إسلامية الذي تقدم به مرشحها للرئاسة الدكتور “,”محمد مرسي“,”، ناقضت في الواقع التراث النهضوي العربي الذي ركز على أن “,”العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الدينى“,”، وأن الديموقراطية العصرية هي أساس الدولة المدنية وليست الشورى ولا البيعة ولا الخلافة على طريقة جماعة “,”الإخوان المسلمين“,”.
وهذه المفردات هي التي تتداولها الآن بكل وضوح جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” إذ يتحدث مرشدها العام عن أن نجاح أعضاء الجماعة في انتخابات مجلس الشعب والشورى يعني أن حلم الشيخ “,”حسن البنا“,” في استعادة الخلافة قد أصبح قريبا!
ومعنى ذلك أن الجماعة مازالت مصرة – ضد كل وقائع النظام العالمي والنظام الإقليمي العربي المعاصر- على استعادة حلم “,”الخلافة“,” وتولية خليفة واحد للمسلمين في مشارق الأرق ومغاربها شئونهم، بعد أن ينحي كل الملوك والرؤساء من مواقعهم!
كما أن جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” التي ينضم إليها الأعضاء بناء على “,”بيعة“,” يبايعون بها المرشد العام للجماعة، تؤكد أن ممارساتها مضادة في الواقع للديمقراطية والتي لا تقبل تطبيق مبدأ “,”السمع والطاعة“,”، لأن فيه عبودية غير مقبولة للمرشد العام للجماعة. وإذا كانت الأحزاب السياسية الديموقراطية تعرف مبدأ الالتزام الحزبي غير أن هذا المبدأ لا يستمد قوته من الدين!
وهكذا يمكن القول إن مشروع النهضة المصرية بمرجعية إسلامية الذي توزعه الآن جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” بمناسبة انتخابات رئاسة الجمهورية في مصر، بالرغم كل الأفكار المتناثرة فيه عن الاقتصاد والتنمية، ليس سوى تزييف صريح لفكر النهضة العربي الأصيل للرواد الأوائل من المفكرين العرب.
وهذا الفكر النهضوي حاول “,”مركز دراسات الوحدة العربية“,” ببيروت تجديده بإصدار وثيقة مهمة عن “,”المشروع النهضوي العربى“,” “,”نداء للمستقبل“,” نشر عام 2010، وصيغ في ضوء المطالب الستة التي دار حولها النضال العربي منذ عصر النهضة العربية الحديثة في القرنين الماضيين، وهي الوحدة العربية في مواجهة التجزئة، والديموقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلة في مواجهة التخلف، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستقلال، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية.
وأخيرا وقد يكون أولا التجدد الحضاري في مواجهة التجمد التراثي من الداخل والمسخ الثقافي من الخارج.
ومن هنا يمكن القول إن مشروع جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” عن النهضة ليس سوى تزييف صريح للمقولات النهضوية الأصيلة التي أبدعها رواد المفكرين العرب في العصر الحديث.
والواقع أن جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” في سعيها الحثيث إلى الانقلاب على النظم العربية الراهنة تقليدية كانت أو علمانية منذ نشأتها حتى اليوم طبقت ما يمكن أن نطلق عليه استراتيجية الخفاء والتجلي!
ونعني بذلك حرصهم الشديد منذ البداية على إخفاء حقيقة المشروع الاستراتيجي للجماعة وهو قلب النظم العربية والإسلامية وتأسيس دولة دينية تطبق أحكام الشريعة الإسلامية.
غير أنهم في لحظات معينة يكشفون عن الملامح الرئيسية لمشروعهم بلا تردد وبصورة قطعية.
والدليل على ذلك أنني دخلت في حوار ممتد مع الشيخ الجليل الدكتور “,”يوسف القرضاوى“,” على صفحات جريدة الأهرام بدأته بمقال نشر في الأهرام بتاريخ الأول من أغسطس عام 1994 بعنوان “,”الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ“,”.
وقد انتقدت في مقالي أفكار “,”القرضاوى“,” في مجال الدعوة لإحياء نظام الخلافة في صورة عصرية وشرحت فيه مفارقة هذه الدعوة للأوضاع العالمية والإقليمية والعربية ورد على الشيخ “,”القرضاوى“,” بمقال نشر في الأهرام بتاريخ السابع من أغسطس 1994 حاول فيه أن يدافع عن فكرته المثالية.
ونظرًا لإصراره عن فكرته الوهمية طرحت عليه في مقال آخر بعنوان “,”الإمبراطورية والخليفة“,” نشر في الأهرام في 15 أغسطس 1994 أسئلة مهمة خاصة بكيفية اختيار الخليفة، وهل يكون ذلك بالانتخاب أم بالتعيين وكيف يمكن أن يتم ذلك؟
وكانت إجابته المدهشة أنه لم يفكر في هذه الأسئلة من قبل وليس لديه إجابات عنها!
وهكذا تطلق جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” دعواتها الواهية لاستعادة نظام الخلافة كأساس للدولة الدينية التي يطمحون في إقامتها على غير أساس من الفهم العميق لروح العصر ولا لقواعد الديموقراطية الحقة!