السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

فسادان للقرية والمحليات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في الستينات - وما أدراك ما الستينات - كانت قريتي تتمتع بمنظومة محترمة من النظافة ،والاهتمام بشوارعها الرئيسية والجانبية، لتصبح خالية تماما من أي ملمح يؤذي العين ويسئ للنفس.
كانت الوحدة المحلية تمتلك عدة سيارات خشبية، ذات صندوق مربع يتجاوز ارتفاعه المتر تقريبا، وتجر هذه السيارات الخشبية البسيطة البغال ،ويقوم على كل سيارة عاملان يقومان بكنس الشوارع وجمع القمامة ،ووضعها في صندوق السيارة الخشبي والقائها في مكان مخصص لذلك، بعيدا عن الكتلة السكنية.
كما كانت شوارع قريتي تتمتع في أشهر الصيف بغسلها ورشها، بواسطة سيارات الرش التي كانت أداة لهو ومتعة للصبية، يستمتعون بالمرح واللهو بمياهها الرطبة ،التي تخفف من وطأة هجير الصيف.
كان هذا ولم يكن في قريتي شارع واحد معبد بالاسفلت..!كانت الشوارع ترابية، لكنها كانت جميلة وفاتنة ،خالية من أي شائبة تشوب جمالها البسيط ،بسبب وعي كل من المواطن والإدارة المحلية ،التي كانت تهتم بالبيئة التي يعيش فيها المواطن المصري، حتى ولو كان مزارعا بسيطا يعيش في قرية صغيرة نائية عن أعين العاصمة.
وكانت مياه الترع ،والجداول صالحة للشرب المباشر، بسبب نقاء مائها، ونظافة مجراها، خالية مما نراه اليوم من أطنان القمامة التي يتم القاؤها يوميا، في فروع النيل الصغيرة ،العابرة في القري لتروي البشر والشجر.
كانت المجاري المائية وسيلة لري الأرض، وسقاية الماشية واستخدام الإنسان اليومي، شرابا وطهوا ونظافة ،خاصة أن هذا الماء سائغ الشراب مقبول المذاق وكانت أفرع النيل في القري تسحرالعيون ،وتخلب الالباب، لمشهد مائها الرائق الرقراق.
ويبدو أن بشر الستينات ومحليات الستينات مشهدا خاطفا لم يتكرر فيما بعد منذ أكثر من أربعة عقود، كأنه حلما مخمليا ،أفقنا منه على بشر غير البشر، ومحليات غير المحليات ،وموظفون يتبارون في عشق القبح ويكرهون قيم ورقي الستينات.
فأصبح المواطن المصري يلقي قاذوراته في مجاري الترع ! أصبح يلقي مخلفاته البشرية " مياه مجاري صرفه " في "مياه مجاري شرابه"، وأصبح المجري الذي كان بالامس " تبرا بين شاطئين " و"يسحر العيون"، يقذي العين، ويؤلم النفس، بسبب قبح مشهد القمامة العائمة على صفحة مائه، الذي لم يعد "نميرا "!.
المصري الذي تعمد اهانة مصدر الحياة في وطنه -وهو النهر الخالد - أصبح نيله مهددا الآن، بعد أن تعمد أعداء الحياة اهانته ،بالقاء مخلفاتهم فيه حتى أصبحت المجاري المائية التي كانت تخلب اللب بمرآها ،مجرد برك من ماء آسن، يؤذي الانوف برائحته العطنة.
لم تكن المحليات أفضل حالا من المواطن ،بعد أن توقفت عن مسؤليتها في تنظيف شوارع القري، والمدن الصغيرة ،بل والمدن الكبيرة أيضا، فأصبح المواطن يعتاد القبح، ويعيش فيه ويتعايش معه، ويألفه ويتآلف معه، ولا يطيق عنه ابتعادا.
توقفت المحليات عن مهمتها في تنظيف الشوارع التي تراكمت فيها القمامة التي افترشت شوارعها، فبادلها المواطن قبحا بقبح ،وعاند نفسه ،فألقي في مجري الماء "المجاري" ،وأستبدل "التبر السابح بين شاطئين" بمقبرة للحيوانات النافقة، ليتبدل النيل من شريان للحياة، إلى صندوق قمامة ضخم على امتداد ربوع الوطن.
وكان طبيعيا أن ترفض النفس التي اعتادت القبح "إلا من رحم ربى"، أي وسيلة لترقيتها، إلى مصاف الإنسانية المتحضرة ،فرفضت مشروع تنظيف الترع وتبطينها، وآلت على نفسها ألا تتخلي عن عادتها في تشويه الجمال ،وأن تستمر في رفض النور لأن عيونهم التي ألفت الظلام يؤذيها ضياء الصباح كما أن المحليات التي كان الفساد فيها قد وصل إلى الركب منذ أكثر من عقدين قد استطال فيها حتى جاوز الانوف، وربما علا الرؤس ايضا.